سأنفض غبار السياسة قليلاً عن ملابس الوقت, وألتقط الأنفاس المبعثرة أمام المشاهد السياسية المتلاحقة, وأنتهز فرصة المرور العابر للشيخ الجليل "رمضان", محاولاً التوقف أمام منطقة من الإعجاز التصويري في القرآن, حيث تظهر الصورة بشكل باهر على المستويين الموضوعي والتخيلي معًا, محملة بشحنات من الحيوية والإدهاش وهي تخاطب الحواس الإنسانية المختلفة, ودون استثناء, بصريًا وصوتيًا, تجسيدًا وتشخيصًا, حجمًا ولونًا, فيستسلم لها الوجدان والعقل في آن واحد, حيث تفعل بهما ما شاءت من تأثير, فلا يملك المستمع إلا أن يردد ما قاله العربي القديم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق, وإنه يعلو ولا يعلى عليه". إن روعة الصورة القرآنية تبلغ الحد الذي يجعلنا نطلق عليها ونحن مطمئنون بأنها صورة سينمائية, وكأن هناك كاميرا ذاتية تتحرك وترصد كل عناصر المشهد, بكل تقنيات الإخراج المعروفة من زووم, وكلوز أب, وحركة البانوراما, وحركة الويب, وغيرها من التقنيات المعروفة في فن الإخراج السينمائي. ولكي لا نطيل في المقدمة, فإننا نعطي بعض الأمثلة على ذلك: قال تعالى في سورة الجمعة: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا, وقال سبحانه في سورة المدثر: "فما لهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة". ولنتأمل ولنحلل عناصر وطبيعة المشهدين معًا: في الآية الأولى المشبه جمع (الذين حملوا التوراة), والمشبه به مفرد (كمثل الحمار), أما في الآية الثانية, فعلى الرغم من أن المشبه أيضًَا جاء على صيغة الجمع (فما لهم عن التذكرة معرضين), فإن المشبه به جاء بصيغة الجمع, (كأنهم حمر مستنفرة), فما السر وراء هذا الاختلاف في الصورتين مع أن المشبه في الحالتين جمع؟ هنا تجيب الكاميرا الذاتية التي يحملها كل مستمع متأمل متدبر، فالصورة الأولى تتحدث عن بلادة حاملي التوراة, وعدم إدراكهم لقيمة ما يحملونه, فهم بهذا المعنى كالحمار الذي لا يدرك طبيعة وقيمة ما يحمله من أشياء, وصورة الحمار هنا ثابتة استاتيكية, لأنه بطل الكادر وحده, فلا يشاركه أحد في الصورة ولا في حركة الكاميرا, ما يجعل المستمع يتابع حركة وشكل هذا الحمار وهو يتحرك ببطء نتيجة ثقل الأحمال التي فوق ظهره (تأمل أسفارًا لا سفرًا واحدًا)، وتأمل الجرس الموسيقي لكلمة أسفارًَا (كتبًَا) مع كلمة أسفارًا (جمع سفر) بما فيها من مشقة ولهاث وإرهاق, وتأمل أيضًَا حملوا, ويحملوا, وهي مفردات تتعلق في الغالب بالأشياء المادية لا المعنوية, وكأنه ثقل حقيقي, وهي تعبر عن النظرة المادية لبني إسرائيل في تعاملهم مع الأوامر الروحية التي يقصد منها تهذيب للنفس. إن الحمار هنا هو بطل ذلك المشهد, ولنتخيل مثلاً لو جاء التشبيه بصيغة الجمع (حُمر), لذهب جمال التركيز بسبب تشتت الذهن وراء متابعة تلك الحمر, أما في الصورة الثانية في سورة المدثر, فالآية تتحدث عن نفور المشركين من صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم, نفور يصل إلى حد الهرب منه كما تهرب الحمر من الأسد, فالمشهد هنا مشهد تشتت بامتياز يغلب عليه الحركة الطائشة والخطوات السريعة الذاهلة, وهذا لا يناسبه إلا الصورة الجمعية, حمر مستنفرة, إضافة إلى موسيقى تصويرية تتسم بالرهبة والضجيج, بطلها حرف الراء, في الكلمات الآتية: تذكرة – معرضين – حمر – مستنفرة – فرت – قسورة, وسبحان الله رب العالمين.