كنت مع فريق عمل تليفزيوني نجهز لتصوير حلقة مع مجموعة من المثقفين والنشطاء في العمل السياسي والعمل الأهلي في إحدى المحافظات النائية، كانت محاور الحلقة تدور حول أهم المشاكل التي تعاني منها المحافظة، وكان من بين الحضور المرشحين لأن يكونوا ضيوفًا بالحلقة، امرأة في الأربعينيات من عمرها قدمت لى نفسها: فلانة الفلانية.. إعلامية. قلت في نفسي: الحمد لله "زميلة" وسوف توفر علينا كثيرًا من الجهد، بل ربما تساعدنا في إنجاز الحلقة. سألتها بكل براءة: حضرتك زميلة؟.. هل تعملين في إحدى المحطات الإذاعية أو التليفزيونية المحلية؟ فقالت: لا. وانتظرت أن تعرفني طبيعة عملها كإعلامية لكنها لم تقل شيئا بعد "لا"! فسألتها: حضرتك أكاديمية؟.. تدرسين بإحدى الجامعات سواء الخاصة أو الحكومية؟ قالت: لا (وسكتت أيضا( نزلت بسقف توقعاتي وسألتها: تكتبين مقالات - من الخارج - بإحدى الصحف الإقليمية أو مواقع الإنترنت؟ فاكتفت أيضًا بقولها: لا. سألتها بشيء من الضيق: حضرتك إعلامية "بتعملي إيه بالظبط"؟ قالت بكل أريحية: باعمل مداخلات في الفضائيات. قلت لها: نعم؟! حضرتك بتعملى مداخلات في الفضائيات؟! قالت وبكل ثقة: كثيرة جدًا وفي كل الفضائيات.. حتى الأستاذة منى الشاذلى عارفاني من صوتى وبكلم الأستاذ معتز كمان و... المهم.. انتهت الحلقة بحلوها ومرها، لكن لم ينته مسلسل "الإعلاميين" الذين قابلتهم على غرار الأستاذة التي حصلت على لقب "إعلامية" نتيجة كثرة مشاهدتها لبرامج ال"توك شو" وكثرة مداخلاتها. فرأيت أناسًا كثيرين عرفوني بأنفسهم أنهم "صحفيون" أو "كتّاب"، تسأل الواحد - أو الواحدة منهم - في أى صحيفة تعمل، أو ما هي مؤلفاتك ككاتب؟ فتجد أنه التحق بركب الصحافة أو حلق في سماء الكتابة والإبداع من خلال صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ولا يتورع أحدهم عن أن يطلق على نفسه "كاتب" وتجده يكتب لفظ الجلالة "الله" بالتاء المربوطة.. أستغفر الله. الواقع أن الإعلام الحديث أو ما يعرف بال"نيوميديا" بما كان له من نقلة نوعية في نشر الأخبار المكتوبة والمصورة وجعل الناس أسرع وصولاً للخبر من وسائل الإعلام التقليدية، كما أنه أسهم في ظهور ما يعرف ب"المواطن الصحفي" الذي لا يكتف بتلقى الخبر لكن يسهم بإيجابية في صناعته ونقله وتداوله على نطاق واسع. إلا أن هذا الإعلام الجديد ارتكب – هو أو القائمون عليه – جرائم عدة، من بينها إفراز طبقة من المجتمع أخلت بالكثير من القيم الإعلامية الأصيلة، وتجرأت عليها فأصبح هناك خلط كبير بين الخبر والرأي، (لأنه لا يعرف أساسًا ما الخبر وما الرأي)، وبين الخبر والشائعة، وبين النكتة التي تطلق لتثير الضحك والحقيقة التي تطلق لتتسبب في حدوث كوارث، وارتكبت الجرائد – التقليدية – وبعض الفضائيات جرمًا أكبر بتناقل هذه الشائعات التي يصنعها "الإعلاميون الشعبيون" على مواقع التواصل الاجتماعي، بنقل هذه المواد على أنها أخبار جديرة بأن تتصدر الصفحات وتتقدم عناوين الفقرات، فلا تكاد تخلو صحيفة الآن أو فضائية من خبر تحت عنوان "نشطاء على الإنترنت يتداولون خبرًا مفاده ... كذا"، وهو موضوع لا يعدو أن يكون محض خيال أو طرفة، تتسبب في إشعال حرائق كثيرة. حرية الإعلام التي يشهدنا عالمنا العربي في الآونة الأخيرة لم تكن منة من النظم الحاكمة سواء قبل ثورات الربيع العربي أو في ظل الأنظمة التي أفرزتها الثورات، لكنها حق اكتسبه المجتمع بإرادته، بل إن الإعلام الجديد أسهم بشكل كبير وفعال في اندلاع تلك الثورات، بتمرده على إعلام المسيخ الدجال الذي لا يرى إلا بعين واحدة هي عين الديكتاتور المستبد، إلا أن هذا النوع من الإعلام يحتاج الآن إلى ما يمكن اعتباره مواثيق شرف، وإلى قيم إعلامية تضبط إيقاعه وترشد من اندفاعه، وترسم له معالم تدفع به في الطريق الصحيح، وهذه القيم لا تأتى بتشريعات أو قوانين أو قرارات سلطوية يصدرها الحاكم أو المسئول، إنما تتحقق هذه القيم بالنقد الذاتي من قبل "المواطنين الصحفيين" أنفسهم، وبممارسة المجتمع حقه في هذا الإعلام، فتتولد القيم بالتجربة عن طريق الصواب والخطأ، لكن من المهم أن تكون لدينا الجرأة، فنقول إن هذا صواب وهذا خطأ، هذا يحتاج إلى تعديل وذاك يحتاج إلى تعميق، والأهم من هذا أن نقوم بإنشاء نقابة للعاملين بالمداخلات التليفزيونية، على أن تكون "صديقتنا" عضوًا مؤسسًا بها.