كل جميل فى الحياة إذا بالغت فى تفسيره وتفتيته ونشره وطيه وتقليبه على كل وجه، فإنه يهرس تحت الفحص ويفقد مذاقه ورونقه ويتحول لشىء مهلهل لا قيمة له وخاصة الأفكار. الفكرة الأولى تشبه الوليد، فيه قوة الروح وبراءة وخصوبة حياة جديدة واعدة، ولكنه يحتاج حماية ورعاية لينضج ويشب ويقف على قدميه، وللأسف من السهل جدًا هرسه تحت أقدام المتصارعين. هذا ما يحدث فى مصر ما بعد الثورة، كلما فتح الله على مجتهد مخلص بفكرة جديدة تسهم فى دفع سفينة الوطن للأمام، بعيدًا عن مأزقها الحالى، فإن الأبواق المتربصة وما أكثرها تسارع فى استلام الفكرة الوليدة، فتنتهك براءتها بسيل من التفسيرات المغرضة وتقلبها يمينًا وشمالاً حتى تهرسها تمامًا، ويضطر صاحبها أن ينسحب من المشهد حفاظًا على كرامته، وهكذا يتسيد المشهد بلطجية الأفكار الجاهزون بأسلحتهم المسنونة للتشريح والذبح. كيف نخرج من دائرة التربص ونصل لنقطة البداية فى التوافق المجتمعى الضرورى لتنمية وتقدم أى مجتمع؟ نحتاج من يخرج عن الأفكار الشائعة والتى صارت كأنها نهاية المطاف، نحتاج من لا يطرح أسئلة سخيفة من نوعية هل تؤيد مرسى أم تريد صباحى رئيسًا للجمهورية؟ هل أنت مع الإخوان أم مع جبهة الإنقاذ؟ هل أنت مع المشروع الإسلامى أم العالمانى؟ هذه الأسئلة مفتعلة وغير ضرورية بدليل أن مصر عاشت طويلاً وكثيرًا وشيدت نهضة وحضارة منذ فجر التاريخ بدونها، المشكلة أن العصر الذى نعيشه إذا انتشرت فيه موجة من الأفكار عبر الإعلام ووسائل الاتصال، فإن الجميع يستنشقها وتصيبه عدواها اللاهثة فتجد قامات فكرية قد انجرفت أولاً للرد على تلك التساؤلات ثم صارت طرفًا فى الصراع، وهكذا تتعمق المحنة وتتسع الدائرة المتحركة لابتلاع المزيد. أنا لن أرد على تلك التساؤلات لأنها خبيثة، إنها الطعم الذى يصطاد الآمن على الشاطئ ليجره إلى التصارع فى الحفرة العميقة التى لا ينجو منها أحد. بداية البحث هو الأطروحة أو السؤال الذى يبحث عن إجابة، ولذلك لست مضطرًا للإجابة على أسئلة لا تؤرقك ولا تراها أسئلة الوقت. ربما أرى سؤال الساعة هو كيف نعطى ظهرنا لصراع الحفرة العميقة ونمضى فى إصلاح ما يمكن إصلاحه، أو نرسى مبدأً جديدًا، هو لا تسألنى عن انتمائى، ولكن اسألنى عن حبى لوطنى، أظن أن كلمة الوطن والمواطنة صارت غريبة لأنها متروكة مهجورة لم تعد كثيرة التردد. ربما يجتمع الشباب باختلاف أطيافهم، والأمل دائمًَا معقودًا عليهم، ليتقدموا بفكرة يدى فى يدك ونبنى معًا دون صراع نظرى يشتت ويفرق ولا يقدم حلولاً ولا طعامًا ولا مساكن ووظائف وكهرباء ومدارس. ربما يكتشف عبقرى اكتشافاً مذهلاً، فيقول: (لقد اكتشفت يا جماعة الخير أننا جميعًا مصريون، نعيش على أرض مصر، ولنا تاريخ مشترك وحاضر متشابك، وتجمعنا لغة واحدة وثقافة جامعة، وتظلنا نفس السماء ونعتز بإنجازات الماضى، فلماذا لا نكمل المسيرة بنفس الروح). أتمنى أن يخرج من صف المتصارعين والمشجعين والمتفرجين فريق من المتميزين، الذين لا يلوثون أيديهم فى صراع المحترفين على جثة الوطن، ويتقدم هذا الفريق المخلص الصفوف بخطوة ويعلن بداية تنفيذ بناء الوطن بأيدى شبابه بالأفعال وليس الكلام، وحتى لو كانت لديهم أفكار، فلتكن أفكارًا بسيطة مؤلفة للقلوب ومجمعة للعقول، وتعود بالخير على الجميع دون أن تصنفهم أو تهمش أحدًا منهم، فمثل هذه الأفكار العملية تولد قوية وغير قابلة للهرس والتفنيد.