بدأت في قراءة رواية "الرمز المفقود" للكاتب الشهير دان بروان وأنا في اليوم الأخير من زيارتي لمعرض القاهرة للكتاب وواصلت القراءة فيها في المطار وفي الطائرة، ورغم أن روايات بروان طويلة وشديدة التعقيد والتداخل وغزيرة المعلومات إلا أنك لا تستطيع الإبتعاد عنها بل لابد لك من مواصلة القراءة حتى النهاية. تميزت روايات بروان بتناول موضوعات نادرة حول نشأة المسيحية وتطورها وما قام به المعارضون لها من العلماء من جهود سرية لتقويض الكنسية، وهو ما تناوله في روايتيه "شيفرة ديفنشي" و"ملائكة وشياطين"، أما في روايته الأخيرة "الرمز المفقود" والتي صدرت ترجمتها مطلع2010م عن الدار العربية للعلوم وبدعم من مؤسسة محمد بن راشد، فقد تناولت موضوع الماسونية والتنظيمات الباطنية السرية. تمتاز روايات بروان بأن القارئ لها يخرج بمعلومات متنوعة مفيدة بالإضافة إلى المتعة في متابعة الحبكة البوليسية، بخلاف الكثير من الروايات العربية التي تدور حول الغرام والحب والجنس والتي تم تحويل كثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية رديئة وهابطة بسبب الأصل وهو الرواية التافهة التي قامت عليها، ورغم أنها تحوم حول الحب والغرام إلا الإحصاءات الدقيقة وأخبار أهل الفن في الإعلام تكشف عن أن طبقة المغنين والممثلين هم من أكثر الناس فشلا في الحب والزواج، ورغم هذا تجد الملايين من شباب وفتيات المسلمين والعرب لا يزالون يعيشون في أفلام الحب ورواياته!! من عادة بروان في رواياته أن ينبه على أن المنظمات والجهات المذكورة بالإضافة إلى الطقوس والعلوم والأعمال الفنية هي معلومات حقيقية، ولكن يصعب على القارئ العادي الفصل بين المعلومة الدقيقة وما يصاحبها من توجيه وإضافات، مما يحدث كثير من الجدل والإرتباك لدى القارئ، وهذا ما سار عليه أيضاً د. يوسف زيدان في روايته "عزازيل" والتي يخرج القارئ لها بارتباك بين ما مدى دقة المعلومات التي قرأئها ومدى صحة القصة التي قرأئها، وأين هو الخط الفاصل بين الحقيقة وإضافات المؤلف، وبالمناسبة صدر لزيدان كتاب جديد بعنوان " اللاهوت العنف العربي وأصول العنف الديني" سيحدث جدل كبيراً بحسب مطالعتي لفهرس محتوياته. مما يلفت الإنتباه مؤخراً كثرة الروايات والأفلام والمسلسلات النى تحاول تمرير رسائل ومفاهيم وقناعات معينة سياسية وفكرية ودينية عبر مخاطبة اللاوعي لدي المشاهد والقاريء، في هذه المرحلة التي توسم بمرحلة "صراع العقول". ففي الأسبوع الماضي مثلا تناول الزميلين سامر خير وياسر أبو هلالة فيلم "أفتار" فرئي فيه سامر خير دعاية للتفوق الأمريكي حتى على مستوى المعارضة لن تنجح إلا بقيادة أمريكية!! أما أبو هلالة فقد وصف الفيلم بأنه يدعو لوحدة الوجود الصوفية!! ونفس هذين الملحظين نجدهما في رواية "الرمز المفقود"، فبطل الرواية البروفيسور "روبرت لانغون" والمتخصص على مستوى العالم في الرموز والحركات السرية، يقوم بالدفاع المستميت عن الماسونية وتفنيد ما لصق بها من اتهامات، وذلك حين يجعلها صادرة بدافع من الجهل والتفكير المؤامراتي الساذج لدى أعداء الماسونية، ويواصل بروان عبر بقية أشخاص الرواية تمرير فكرة أن الماسونية هي التي أنشئت أمريكا (العالم الجديد) لنشر السلام والمعرفة، ولذلك تحتوى جميع الرموز والأماكن التاريخية الأمريكية على أسرار ماسونية في الشكل والزخرفة والبناء والموقع، ومن جهة اخرى لا يزال الماسونيين هم حكام أمريكا التي تنشر العدل والسلام في العالم والذين يسعون لنشر المعرفة القديمة للعالم بين شعوب اليوم، تلك المعرفة العلمية الراقية والتي حافظوا عليها بفضل ماسونيتهم عبر كبار العلماء كنيوتن واينشتاين!! فهل تندرج هذه الرواية ضمن أعمال حملة تحسين صورة أمريكا في العالم؟ أم أنها محاولة ماكرة لنفي التعصب البروتستانتي عن الإدارة الأمريكية؟ أن هذا كله خيال في خيال؟ ننتقل لعقيدة وحدة الوجود الصوفية والتي تشترك بها جميع الصوفيات في العالم، وهي اعتقاد أن كل الوجود هو حقيقة واحدة لافرق فيها بين خالق ومخلوق، والتي يزعم دعاتها أنها التي تحقق السلام والأمن للعالم ويستشهد مؤيديها بقول ابن عربي: كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن دينه إلى ديني داني لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان و دير لرهبان أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه . فالحب ديني وإيماني وهذه العقيدة برغم مظهرها البراق إلا أنها في الحقيقة هي ما يسعد الطغاة والغزاة أن يروج بين الناس، فحين يصبح المعتدي والظالم والمجرم هو نفسه المعتدي عليه والمظلوم والضحية وهو نفسه الخالق والرب، حينئذ لا يصبح هناك معنى للحق والعدل والتضحية والجهاد، فعقيدة وحدة الوجود هي جوهر الدين المحرف والذي ينطبق عليه مقولة ماركس الشهيرة " الدين أفيون الشعوب"!! وحين سادت هذه العقيدة بين جموع متصوفة المسلمين انهارت قوتنا وتبعثر شملنا وساد الجهل وعم الشقاء. داون بروان بعد عدة تلميحات لعقيدة وحدة الوجود يعود في الصفحات الأخيرة ليختم الرواية على لسان البروفيسور " كانت الفكرة بسيطة ومخيفة في آن. الله موجود في مجموع كثير .. وليس في الواحد" ويواصل البروفيسور التساؤل " لماذا تشير المقاطع الأولى من الكتاب المقدس إلى الله على أنه جمع، إلوهيم. فالله القدير في سفر التكوين لا يوصف كواحد.. بل كعدة " ، ومن ثم تجيب زميلته في الرواية " الله جمع لأن عقول الناس جمع". ما هي علاقة التوصيات الصادرة عن مراكز التفكير في الغرب بالاعتماد على التصوف لضمان المصالح الغربية في بلاد الإسلام بمثل هذه الإشارات التي أصبحت تطل بروؤسها عبر روايات وأفلام ومقالات ؟ وهل يمكن ضمن هذا السياق إدراج حملة الدعاية والترويج القائمة اليوم على قدم وساق لحركة فتح الله كولن التركي المقيم في أمريكا، والذي أقام منتدى الوسطية في عمان قبل أسابيع ندوة عالمية عنه وعن حركته ؟؟ قرب خاتمة الرواية يضيف المؤلف إلى كل ماسبق فكرة غير بريئة على لسان زعيم الماسونية " ألا ترى؟ الأسرار القديمة والكتاب المقدس هما واحد" ويقصد بالأسرار القديمة أسرار الماسونية وبذلك يمنح الماسونية الشرعية والأسبقية على اليهودية والمسيحية!!! طبعاً القارئ البسيط لن يشعر بمثل هذه الرسائل الخفية والمتناثرة في 480 صفحة، برغم ما تحتويه من قدر كبير من المغالطة والتوجيه لأفكار وتصورات قد لا يقبلها إذا عرضت بشكل مباشر وبسيط، ومن هنا تأتي خطورة مثل هذه الأساليب في توجيه الناس في زمن العولمة.