لمس الأخ الأستاذ إبراهيم العسعس، في مقاله عن "منتدى المفكرين المسلمين" المزمع إنشاؤه في المستقبل القريب، أمراً على قدر عظيم من الأهمية والحساسية، لمّا تحدث عن "المفكر" في مقابل "العالم" أو "طالب العلم". وهو موضوع تتشعب أصوله وتمتد فروعه إلى ما يشيع في وسطنا العلميّ والثقافيّ من إضطراب سرى اليه من تلك الفوضى الشائعة في جوانب حياتنا العامة. والأمر الذي نريد أن نتلمس اليه سبيلا في هذه الكلمات، هو واحد من العديد مما يجب أن تتناوله اقلام القادرين من الطائفتين، أنْ: هل هناك حدّ فاصل بين الفكر والعلم، حتى يمكن أن تنشأ طائفتين متباينتين هما "المفكر" و"العالم"؟! الفكر – كوظيفة عقلية محضة – لا ينشأ إلا من خلال قاعدة علمية راسخة هي مادة هذا الفكر وخامته التي لا يظهر إلا من خلالها. وهذا يستلزم بالضرورة القراءة الواعية الدارسة، في مجالات متعددة تحظى في عصرها بإهتمام العقل، ثم بالقراءة المتخصصة المتعمقة في مجال أو أكثر من هذه المجالات المتعددة. من هذه القاعدة العلمية الرصينة – إن صحّت واستقامت – لا بد أن ينشأ نتاج علميّ بحت في دائرة التخصص يعكس قدرة العالم -أو إن شئت طالب العلم – على العطاء العقليّ في مجال تخصصه، كما يعكس هضمه لحقائق العلم ومبادئه. وبدون هذا النتاج، ومن غير أن تظهر بصمات "طالب العلم" أبحاثاً يُشهد لها بالجدّة والأصالة، فلا مجال للحديث عن فكرٍ أو علم. القدرة على إفراز المادة التي تُغنى الحياة العلمية أولا، وتقدم المادة المُجَدِدَة للفكر ثانياً، هي الدليل الأول على قدرة العالم، ومن ثمّ على أصالة المفكر، إذ إن الفكر – حين ينشأ عن هذا المثال من رجال العلم، هو فكر جادّ متألق مفيد، وإلا فلا فكر. نرى من هذا أنّ العملية الفكرية تبدأ بعموم الإطلاع في كافة المجالات، ثم بخصوص البحث في مجال أو مجالين يفرض فيه الباحث نفسه من خلال إنتاجه، ثم إلى العموم مرة أخرى حين يسرح عقل العالم فيما يمكن أن يكون نافعاً لأمته تطبيقياً، أو أن يُقدّم مادة فكرية ينشأ عنها علم نافع من الناحية النظرية. عموم فخصوص فعموم. المفكر – إذا، فيما نرى – لا يوجد حقيقة إلا كمرحلة متقدمة من مراحل العالم - أو إن شئت طالب العلم. يمكن أن يكون مسمى "المفكر" قد شاع وإبتُذل – كما ابتذلت الفاظ ومعان كثيرة في الفوضى الفكرية والعلمية والإجتماعية التي تعيشها أمتنا، ولكن "المفكر" هو في خصوصيته لا يمكن أن "يفكر" إلا فيما حصّل من علم صحيح. أما التشنجات العقلية والإفزازات الذهنية التي لا تصدر عن مثل هذا التسلسل، إن هي إلا خداعٌ ساقط، وهزلٌ ممقوت، ونتاجٌ عقيم. الفكر "البحت" دون نتاج علميّ مُوثق مثله كمثل الكتابة بالعامية التي لا يلجأ اليها إلا العاجز عن الفصحى، وهو إنعكاس جيل فقد الكبار وتحدث فيه الرويبضة. ونظرة إلى تاريخ الفكر والعلم في أمتنا تنبئ عن صحة ما قصدنا اليه من أنه لا فرق بين العالم والمفكرّ إلا في درجة البحث وعموميته. فالعقاد العالم الموسوعيّ، ومحمد محمد حسين الأديب المؤرخ، وأحمد شاكر المحدّث الأديب، ومحمود شاكر الأديب المؤرخ صاحب الحديث، مصطفى صادق الرافعيّ الأديب المفكر، وسيد قطب الناقد الأديب المفسّر، وغيرهم فما ذكرنا إلا قطرة من بحر زاخر، ختى في الإتجاه العلمانيّ يصدق قولنا كما نرى عند زكي نجيب محمود الفيلسوف الوضعيّ المفكر. إذن، فلا مجال لفكر بلا علم، ولا نتاج لعلم بلا فكر، وكلاهما يصدران عن عملية ذهنية واحدة كما رأينا، لا وجود لأحدهما دون الآخر، ومن إدعى الفكر دون علم ونتاج ينبئ عنه، كلابس ثوبي زور.