ان هذا الموضوع اختير ليكون متماشيا مع ذكرى أربعينية سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ,صاحب النهضة العملاقة الذي قدم فيها للأمة والإنسانية جمعاء, دروسٌ في التضحية من اجل الحرية و الكرامة الإنسانية, انطلاقا من ألمبادئي الإسلامية السمحاء التي تربى وترعرع عليها في أحضان جده رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه . لقد كان لنهضة الإمام الحسين عدد من الأهداف من أهمها الحفاظ على القيم الإسلامية من العبث والضياع , و حماية المجتمع وصيانة كرامة وحقوق الإنسان من ظلم السلطان الجائر . و قد اختار الحسين منهج لتحقيق هذه الأهداف استوحاه من القرآن الكريم وهو منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان هذا واضح في أول بيان سياسي أطلقه بعد رفضه أعطاء البيعة ليزيد, حيث أعلن الحسين : " إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً،( إذن لماذا خرجت ياسيدي ؟ ) وإنما خرجت لطلب الإصلاح ( الإصلاح في ماذا ) في أمة جدي، ( ماذا تريد ) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" . و هذا البيان على قصر كلماته إلا ان الحسين جمع فيه العديد من المعاني و الأهداف. فقد احتوى البيان على بلاغة سياسية حاذقة جدا حيث استخدم فيه أسلوب التلميح لا التصريح , وعند العرب ان التلميح يكون ابلغ من التصريح أحيانا, فحين قال " إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً" فهو يعلم انه غير متهم بهذه الصفات و ان له مكانته في الأمة , فهو سبط النبي وأباه أمير المؤمنين و له مكانة دينية واجتماعية عالية بين الناس . لذلك لم يكن بحاجة لنفي التهمة عن نفسه لأنه لا توجد تهمة من هذا النوع موجهة ضده . أذن فكلام الحسين موجه الى سلطان زمانه ولكن بطريقة التلميح, وهذا خطاب رجل دولة محنك بالمصطلح السياسي. أما الجزء الثاني من البيان " وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر" فقد أراد الحسين ان يؤكد على ان حركته أصلاحية وليست انقلابية, فهو لا يريد ان يُحدث بدعة بأصول الدين و المبادئ الإسلامية , ولهذا قال الإصلاح في أمة جدي ولم يقل الإصلاح في دين جدي , وهذا يعني ان خلل واقع في الأمة وهو يريد أصلاحه, و الإصلاح يبدأ بتغير الواقع السياسي الذي كان قائما . كما انه ربط بين عملية الإصلاح و بين عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليؤكد ان كل منهما مرتبط بالآخر. ولكن لماذا قال أريد الإصلاح و لم يقل أريد الثورة أو الانقلاب ؟ ان هناك فرق كبير بين الثورة والانقلاب والإصلاح التدريجي ، فالثورة هي تغيير شامل في نظام الدولة و كيان المجتمع وسياسته ، بينما الانقلاب هو تغيير من الأعلى إلى الأسفل لاسيما بالانقلابات العسكرية ، أما الإصلاح فهو تغيير تدريجي عبر طرق و قنوات معينة تعتمد الأسلوب السلمي وليس طريقة العنف . ولكن ماهو الخلل الذي أراد الحسين إصلاحه في نهضته؟ ان الخلل الذي أراد الحسين أصلاحه يرجع الى موضوع تولي يزيد السلطة. فعملية تنصيب يزيد كان فيها خلال ( من وجهة نظره ) كونها جاءت مخالفة لاتفاق الصلح الذي ابرم بين أخيه الحسن ومعاوية بن أبي سفيان , هذا اولا , ثانيا ان تنصيب يزيد سلطان على الأمة تم بدون اخذ رأي اغلب صحابة رسول الله وزعماء و وجها أهل الحجاز و الحسين منهم . فالحسين ُطلبت منه البيعة فقط ولم تجري استشارته أو اخذ رأيه في عملية تنصيب يزيد سلطان على الأمة . لهذا رفض الحسين البيعة لكونها مخالف للاتفاقيات السابقة وفيها تجاوز كبير على حق اغلب الصحابة وأهل الحجاز من وجهة نظره . إلا ان الإمام الحسين لم يقبل بالعمل الحزبي السري أو استعمال الحيلة و الخداع للقيام بانقلاب عسكري أو التآمر مع الإمبراطورية الرومانية للإطاحة بيزيد ، لأن في ذلك غدرا وهذا يتعارض مع أخلاق الحسين , ثم ان مثل هذا العمل (فيما لو حدث ) سوف يعّرض شرعية نهضته الى الطعن وسوف يُفرقها من مضمونها أيضا . ولو افترضنا ان الحسين عمل ذلك فانه حتى لو قّدر له الإطاحة بسلطة يزيد لفقدت نهضته أثرها الحقيقي وعجزت عن لاستمرار في العطاء الذي كان يؤمله من وراء هذه النهضة . ولهذا فان الحسين رفض حتى المبايعة الظاهرية ( أو ما يعرف بمصطلح التقية ) رفض مبايعة يزيد بهذه الطريقة كما أشار عليه بعضهم , فقد أراد ان يكون واضح مع الأمة التي أراد لها ان تقوم بواجبها في مسيرة الإصلاح و التغيير و ليس ان يلجئ هو الى الغدر أو الاستعانة بالقوى المعادية للأمة الإسلامية للإطاحة بسلطة يزيد. فمن هنا أطلق الحسين بيانه الثاني ردا على تلك النصائح والاستشارات التي قدمت له لثنيه عن القيام بحركته و دعته فيها اللجوء الى الحيلة والمناورة وحذرته من ان يقتل ان لم يبايع , فرد عليهم قائلا " ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ". لقد قسّم الحسين هذا البيان الى ثلاثة أقسام , القسم الاول فيه رد على الذين كانوا يحاولون ثنيه عن الخروج وكانوا يحذرونه من القتل ويدعونه الى البيعة الظاهرية. أما القسم الثاني من البيان فيه تحريض للأمة على النهوض , وخاصة منهم أولئك الذين يأتون من مناطق و أقطار بعيدة لأداء الحج , فأراد ان يقول لهم , أليس من الأولى بكم ان تقوموا بإصلاح الوضع الفاسد حتى يكون أجركم اكبر عند الله, " ألا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهي عنه" , فإذا كنتم حقا تبحثون عن اجر وثواب و رضى الله إذن ," ليرغب المؤمن منكم في لقاء ربه محقاً " يعني ان يموت وهو على حق أو ان يموت من اجل الحق لأنه بهذه الطريقة سوف يلقى ربه وهو مظلوما وليس ظالما , فالساكت عن الحق شيطان اخرس .أما القسم الثالث من البيان فقال فيه " فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ". هنا يسعى الحسين الى كسر حاجز الخوف في نفوس الناس ويؤكد لهم ان قبول العيش تحت حكم السلطان الجائر غير جائز و فيه اهانة للنفس و ان الموت في سبيل استعادة الكرامة الإنسانية فيه سعادة أخروية لان الذي يقتل دفاعا عن دينه أو حريته أو أي حق من حقوقه فهو شهيد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . الملاحظة الأخرى في هذا البيان هي تصاعد النبرة الحادة في خطاب الحسين , فهنا و بصيغة دبلوماسية أيضا ‘ الملح الحسين عن استعداده للمواجهة بكل أشكالها وحض الناس على فعل ذلك. وقد يأتي السؤال لماذا غير الحسين من لهجته ؟ . يعتقد بعض الباحثين ان الحسين حين خرج من المدينة الى مكة بعد رفضه إعطاء البيعة ليزيد كان مازال لديه الأمل في إمكانية تغير السلطة من إصرارها على اخذ البيعة منه وكان يعتقد ان بعض مستشاري يزيد سوف يقومون بإقناع الأخير بترك الحسين الى حين وفي هذه الفترة سوف يسعى هو من جانبه القيام باتصالاته اعتمادا على مكانته التي يحضا بها في المجتمع ليتمكن من إحداث تغيير في الأمر . غير ان السلطة لم تتركه و أرسلت من يقوم باغتياله في موسم الحج ولهذا شعر الحسين ان القضية وصلت الى طريق مسدود و ان السلطة عازمة على تصفيته فما كان منه إلا ان يصّعد من خطابه ويحّشد الناس للمواجهة , فجاء بيانه الثاني بصيغة تعبوية وتحريض على القتال . إما البيان الثالث فكان الحسين أكثر وضوح فيه حول ما يخص حتمية المواجهة المسلحة, فبعد ان التقى به ممثل عبيد الله بن زياد وهو في طريقه الى كربلاء طلب منه الاستسلام والبيعة ليزيد أو قتله, فجاء رد الحسين قائلا " اني قد خيرت بين اثنتين السلة أو الذلة وهيهات من الذلة " فكان هذا تعبير عن شعور الحسين بالتهديد الصريح والمباشر , فالسلة تعني السيف والقتل , وأما الذلة فهي مبايعة يزيد , فاختار الحسين الأولى وهي السلة التي لا يخافها, ورفض الثانية وهي الذلة التي رفضها منذ البداية ولا يمكن القبول بها أبدا لانها مخالفة لشرع الله و القيم التي يحملها , ومخالفة أيضا للأسس التي قامت عليها حركته الإصلاحية التي تحولت بعد استشهاده الى منهج في التغيير من اجل بناء مجتمع تسوده العدالة والقيم الإنسانية الحميدة . لقد قبل الحسين بالسلة ليستشهد في سبيل المبادئ الإسلامية و دحر الظلم و أعلاء كلمة الحق والعدل , حتى غدى بذلك نبراسا ومشعلا للحرية والدفاع عن الكرامة الإنسانية . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه , ماذا أخذنا من دروس النهضة الحسينية ؟ . فهل استطاع المنادون باسمه ان يبنوا مشروعا ثقافيا أو تربويا أو اجتماعيا يستلهم أفكاره من آفاق النهضة الحسينية ؟. ان ما تقدمه المراكز التي سميت باسم الحسين لا يرتقي الى مستوى الدروس التي قدمتها النهضة الحسينية, فالدور الحقيقي لهذه المراكز أهم واكبر بكثير من مسألة الرثاء وجلد الأبدان بالسلاسل والسيوف, فالأمة التي تجلد نفسها لا يمكنها ان تنهض و تصنع مستقبلا لأبنائها , فالمطلوب هو ان تكون هذا المراكز باعث على التقارب والوحدة وعامل إصلاح وتغيير و نشر معارف مدرسة أهل البيت القائمة على المنهج القرآني في الدعوة ( أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) فالمجتمعات التي استلهمت منهجية النهضة الحسينية في الإصلاح تمكنت ان تبنى نفسها وتضمن مستقبل أجيالها . كاتب احوازي ملخص لمحاضرة القها الكاتب في احد المراكز الثقافية العراقية في كندا