هناك لحظات في حياتك تشعرك أنك أمسكت معنى الحياة ولامست جوهرها، والغريب أن تلك اللحظات غالبًا تأتي بغير موعد ولا إعداد فهي تأتيك من حيث لا تحتسب، وأي حساباتنا البشرية يصدق؟ لحظة حياة صادقة أثرت في نفسي منذ أيام عندما كنت أحضر لقاءً من لقاءات سيدات البلدة التركية (سقاريا) التي أقيم فيها حاليًا، مر اللقاء كالعادة ما بين تلاوة للقرآن الكريم ثم حديث عن مناسك الحج والعمرة قامت به الداعية التركية (حنيفة عادل) وفي خاتمة اللقاء تتصافح النسوة وتتبادل الدعاء بالخير، وبينما أصافح إحدى السيدات التي لم أكن أعرف اسمها دعوت لها بأن يكتب لها الله زيارة البيت الحرام التي تتشوق لها إذا بها تنتفض أمامي كعصفور بلله المطر، احتضنتها لأهدئ من روعها فأخذت تقبل رأسي وتنهمر دموع الشوق الحارة من عينيها، كان جسدها الهزيل يرتعش وأنفاسها المتسارعة تكاد تنتزع روحها، يا الله ! أشهد بأنني في حياتي لم أر أو ألمس تلك الحالة الإيمانية العميقة التي اجتاحت السيدة (نازك) وهو اسمها الذي عرفته فيما بعد، لا أعرف ما أسباب صعوبة تحقيق آمال الحج والعمرة للمسلمين الأتراك حتى الآن. ولكني أعرف أن رفيقاتي المصريات في العمرة الأخيرة كن يفضلن تمضية الوقت في التسوق أو مستلقيات أمام التليفزيون في حجرة الفندق وكأنها رحلة سياحية ورغم أن الفندق كان مطلاً على المسجد الحرام مباشرة إلا أن غالبية الصلوات كانت تؤدي داخل الحجرة. هي ليست مقارنة ولكنه تأمل كيف تأتي الفرصة للبعض فيزهد فيها وكيف يتحرق لها غيره شوقا، لو كنت أملك مالاً أو نفوذًا لسخرته لتحقيق حلمها الراقي المحلق، ولا أملك لك يا (نازك) إلا الدعاء، أتخيلها وقد استقبلت الكعبة بوجهها ولمست الحجر الأسود بيدها لربما نزع الحنين روحها وأذاب اليقين كبدها حتي تنطلق روحها الفتية الوثابة الغنية بالإيمان وتفارق جسدها الهزيل الفاني الذي ينوء بتلك الروح القوية. معني الإيمان بالله واليقين في رحمته هو أعمق من أن تحتويه الكلمات أو تدل عليه الإشارات، أحسسته في رجفتها وانتفاضة قلبها التي كادت تبدد جسدها وتجعله حطامًا لتخرج الروح آمنة مطمئنة راجعة إلى ربها. ما الذي تفعله الكلمات؟ ليس شيئًا كثيرًا فهي قوالب جامدة نصب فيها مشاعرنا التي هي من نفحة الروح، وكثيرًا ما تحول الكلمات بيننا وبين حقيقة مقاصدنا خاصة لو استغرقتنا حدودها وألاعيبها حتى لفتتنا عن الجوهر الذي تعبر عنه، فمثلا حين أسمع من يتلاعب بألفاظ الحلال والحرام ليجد ثغرات لعبثه وانفلاته فإنني أجفل وأتحسر، وحين أرى تلك السيدة الأعجمية البسيطة تعبر عن يقينها دون كلام ولكن بنفحة من روحها الطيبة فإنني أقبل يديها على أنها علمتنى درسًا جديدًا في معني الإيمان وحرارة أشواق المحبين الصادقين. كان يجب أن أسجل أن اللقاء كان في بيت بسيط، بيت السيدة (فاطمة) التي يعمل زوجها في صناعة الملاعق الخشبية التي تستخدم في المطابخ وقبل خروجي من عندها أهدتني هدية قيمة سأظل محتفظة بها في مقتنياتي الثمينة شاهدة على هذا اليوم المؤثر في حياتي، لقد أهدتني ملعقة خشبية من صنع يد زوجها الذي تفخر به وتعتز.