لا ريب أن حب الوطن من الإيمان – و إن كانت هذه المقولة ليست بحديث نبوي كريم - ، و قد تبارى الجميع بإظهار الحب له و التّغنيّ بأمجاده،و التدافع نحو الوفاء بضريبة الانتماء إليه و الولاء له بعد الله سبحانه. و من أروع ما درسناه لأمير الشعراء "أحمد شوقي" – و هو في منفاه بالأندلس و قد اشتد به الحنين – قوله: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي و ربما يغالي اليابانيون في إظهار هذا الحب و ربط هذا بحاكمهم و مؤسس نهضتهم الإمبراطور (ميجي) فيقول شاعر النيل "حافظ إبراهيم" على لسان أحدهم عام 1904م: هكذا (الميكادو) قد علمنا أن نرى الأوطان أمْاً و أبّاً (و الميكادو هنا هو الإمبراطور) و من قبل ذلك بمئات السنين يأتي صوت الحبيب محمد صلى الله عليه و آله و سلم و هو إذ يؤمر بالهجرة و يردد مقولة الحب الصافي لوطنه (مكة) المكرمة مما نحفظه، فيضع بهذا المعيار الذي لا يخطئ و يؤصل المفهوم التربوي العظيم في حب "الوطن" و البقاء فيه باعتبارها من أحب البلاد إلى قلبه الشريف، لولا طوارئ عاديات تدفعه إلى البعد عنها. هذا الشأن الطبيعي عند كل إنسان سوي، متوازن، لكن في المقابل، نجد مخرجات ليست سوية، ليست متوازنة، مخرجات أخرجتها ثقافة الانكفاء و ثقافة الاغتراب – و للأسف – حمل لواءها المحسوبون على الدين .. و الدين منها براء!! و الأمثلة كثيرة .. كثيرة.. و بعضها معروف لي و موثق عندي، و لكن لن أكتب عنها الآن.. فقط أذكر نماذج قليلة – و طالما نتحدث عن الشعر و الشعراء – فليكن نموذجان شعريان يقابلان النموذجين الشعريين السابقين، فأحدهما يقول: لا مصرُ، داري، و لا تلك الربى بلدي إني من الحق فيها، قد نفضت يدي إنه – هنا – ينكر وطنه – كليته – و يقرر المفاصلة بينه و بين وطنه، بحسبانه أن " وطنه " بعيد عن الحق، و هو قد نفض يده عنه. و يقول آخر: و ما حفظت "مصر"، ودادي، و لا رعت بعادي، و لا صانت – كما خلتها – سراً و هذا الآخر – بعيد عن وطنه، الذي يتهمه بكشف سره، و إهمال ماضيه و نسيانه. إن هذه الثقافة قد ولّدت مع الأيام أموراً و مفاهيم خطيرة، و استنبتت معها قيماً غريبة هادمة للنفس و الوطن معاً نذكر بعضها: أولاً: أن المبتلى بهذه الثقافة لم يعد يهتم بما يجري في وطنه، و ما يزخر به من أحداث.. غاية ما يقوم به هو دور "المتفرج" لكن هذا المتفرج لا يحرك ساكناً، و هو ينتظر أن تأتي النوازل على وطنه فيهلك الجميع.. و يلوك بلسانه بعض شواذ القول من بعض أشباه العلماء المتأخرين و لا حول و لا قوة إلا بالله. ثانياً: يشارك في كل فعل يمثل إساءة لوطنه، مثل المظاهرات، يقوم بها بعض المتخرصين أو المتربصين –للأسف – غالباً – ما يكونون من المنتمين للجماعات المحسوبة على الدين. أعرف واحداً من هؤلاء، سألته متى تعود إلى وطنك؟ و له أكثر من نصف قرن بعيداً عنه، فقال: أعود إلى وطني على أسنّة الرماح. ثالثاً: يظهر على بعض القنوات الفضائية، و بعضهم يسعى إليها سعياً، و يتكلم كأنه الفاتح القادم و يهاجم رجالات وطنه و هو في عداد أولادهم و أحفادهم سناً و مكاناً و عملاً و إنجازاً [email protected]