إلى الداعية: الحبيب علي الجفري: لم أفاجأ بمقالك الداعية المنشور على جريدة (الوطن) المصرية يوم الأحد: 21 إبريل 2013م، والتي عنونت لها: برسالة محب، رحت تسوق نصوصا فيها ثم تحتكم في تأويلها لهواك العلمي، مما جعل الرسالة تخرج عن إطار الحب كم زعمت، إلى إطار الغرض، فرحت تسوق نصوصا توحي بأن طلب الإسلاميين للترشح لنيل الحكم جريمة دينية، عاقبته الخسران في الدنيا، والهلاك والعذاب في الآخرة، وهي: 1 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أَمِّرنا على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه". وفي رواية: "لا نستعمل على عملنا من أراده". 2 وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". 3 وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها". 4 وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة". 5 وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة". وهذه الأحاديث التي وردت في ذم طلب الإمارة والحرص عليها، لها توجيه، وليست موضع إجماع في الأخذ بظاهر عباراتها، والتي تفيد منع الترشح، أو طلب السلطة، وحتى إن أخذت مجردة لا يوجد فيها ما يفيد التحريم، وإنما تحمل على الكراهة كما ذهب البخاري ومسلم رواة هذه الأحاديث، حيث وضعوا مثل هذه الأحاديث تحت عنوان: (كراهة الإمارة بغير ضرورة) و(ما يكره من الحرص على الإمارة). ومن وجه آخر: فربما كان ذلك تشريعا خاصا بمجتمع المدينة ودولتها، فرعيَّتُها معروفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وباستطاعته وكبار الصحابة أن يختاروا أكفأ العناصر للمناصب العامة، دون ترشيح. كما وجد في القرآن الكريم نصوص دلت على جواز ترشيح النفس في أي عمل يبتغي به الإنسان صالح المجتمع، وخدمة دينه، فمن ذلك: 1 قوله تعالى بعد أن فسر نبي الله يوسف الرؤيا لملك مصر، ووضع لهم خطة اقتصادية تحميهم من مخاطر المجاعة المتوقعة: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يوسف: 55،54. والتي رحت تأولها حسب هواك، ناسيا ما ذكره العلماء في طلب نبي الله يوسف عليه السلام ومنها قول العلامة ابن عاشور في التحرير والتنوير: (وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ لِوُجُوبِ عَرْضِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِوِلَايَةِ عَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ عَلَى إِيثَار مَنْفَعَة نَفسه عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ جَوَازَ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَهْلٌ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَلَّ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ). 2 وقول سليمان عليه السلام: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) ص: 35، فنبي الله سليمان هنا: طلب الملك، وتشوف إليه، ودعا الله أن يهبه الملك، وليس أي ملك طلب، بل طلب ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وهذا دليل قوي من القرآن الكريم، في سيرة نبي من أنبياء الله، جمع بين النبوة والملك، في الدلالة على جواز الترشح، وطلب المنصب؛ شريطة: أن يهدف من وراء ذلك طاعة الله، والعدل، وليس مصلحة شخصية. 3 وعندما أراد نبي الله سليمان أن يري ملكة سبأ ما آتاه الله من قوة، وما توافر لديه في دولته وأفرادها من علم ومُكنة، أراد أن يأتي له من بلاطه وجنوده من يأتيه بعرشها قبل أن تأتيه مسلمة، فقال: (يا أيها الملأ أيكم يأتني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) النمل: 3840. فهنا أعلن نبي الله سليمان عن مهمة، يحتاج إلى من يرشح نفسه لها، أو يرشح غيره، فتبارى عفريت من الجن ذاكرا مؤهلاته، وقام له الذي عنده علم من الكتاب فاستحق الترشح للمهمة. بل هناك نصوص صريحة في طلب الترشح والتوجه إليه في مواقف لكبار الصحابة رضوان الله عليهم، أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففي يوم خيبر قال صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، ثم يفتح الله على يديه، قال عمر: فما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ، وتطاولت إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي فدفع إليه اللواء". وفي رواية أخرى: " فلما كان الغد: تبادر لها أبو بكر، وعمر، فدعا عليا وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللواء". وفي رواية ثالثة: فغدا الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطيه الراية فقال: "أين علي؟". وفي رواية رابعة: "فتطاول لها ناس". بل وردت رواية فيها تمني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الإمارة يومها صراحة، فعندما قال صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدًا رجلأ يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله" قال عمر رضي الله عنه: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، بمعنى: تطاولت، وفي الرواية الأخرى: أي حرصت على ذلك حتى أظهرت وجهى، وتصديت لذلك؛ ليتذكر مكاني فأعطاها، كما قال: (رجاء أن أدعى لها). كما أن هناك سابقة تاريخية تدل على جواز الترشح، والتمسك بترشيح النفس، وعدم التنازل عن الترشح لصالح مرشح آخر، فقد ذكر ابن كثير في قصة انتخاب عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم، فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها، ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك، إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ما له في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه، والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين، فسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله علي والإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا: نعم. فسكوت علي وعثمان رضي الله عنهما دلالة ضمنية، ولكنها صريحة وواضحة على ترشيح نفسيهما لمنصب الخلافة. وهذا الترشيح منهما في الحقيقة هو من قبيل الدلالة على ما ينفع المسلمين؛ لما يحسّه كل منهما من نفسه من كفاءة وقدرة على خدمة المسلمين، عن طريق تولي منصب الخلافة، بانتخاب المسلمين له. فمن يجد في نفسه كفاءة وكان قد استوفى الشروط المتطلبة في المنصب، أو في عضوية مجلس الشورى أو غيره، فله أن يرشح نفسه ما دام يبغي المصلحة العامة، ويبتعد عن التكالب، ويجتنب الافتئات على من هو أولى منه، ويؤيد هذا الاتجاه الإمام الماوردي في الترشح للإمامة فيقول: (وليس طلب الإمامة مكروها، فقد تنازع فيها أهل الشورى، فما رد عنها طالب، ولا منع منها راغب، واختلف الفقهاء فيما يقطع به تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما، فقالت طائفة: يقرع بينهما، ويقدم من قرع بينهما). ثم كانت الطامة في رسالتك التي تزعم فيها الحب، أنك تشق عن قلوب الإسلاميين، فحكمت بأن وصولهم للسلطة بصناديق اقتراع، وشورى صحيحة، هي رغبات وشهوات نفس، ليس لها نصيب من التقرب إلى الله بذلك. وكانت الطامة الأكبر في جزمك بأنهم كم مرة كذبوا، وكم مرة وعدوا فأخلفوا، وكم مرة عاهدوا فنكثوا، وكم من بريء اتهموه؟ وكم من كفء تم إقصاؤه، وكم من دم بريء من شباب الإسلاميين وخصومهم سفكه الإسلاميون؟ ما هذا يا رجل، وكأنك وصلت إلى ما لم يصل له القضاء المصري، دون تحقيق أو تثبت؟ وكأن الله كشف لك الحجب بحكم صوفيتك فرأيت ما لم يره أحد، تحتكم إلى نصوص تؤولها بهواك، ثم تهمل نصوصا تدمغك بالهوى وكيل الاتهامات بالباطل للبرآء، أو على الأقل ما لم تثبت إدانتهم بعد، والقرآن الكريم يقول: (قل هاتوا برهانكم) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "على مثل الشمس فاشهد" فماذا رأيت بأم عينك مما افتريت واتهمت به من خاطبتهم برسالتك، حتى تسلم بأن ما افتريته حقائق لا افتراءات أملاها عليك من أملاها. ثم إنك بناء على منهجك الذي اتخذته في مقالك وفي مسلكك الدعوي، كان عليك أن تكون رسالتك لمعارضي الإسلاميين، فمنهجك يقضي بأن الإسلاميين أولي أمر في بلادهم الآن، وواجب على المعارضة بحكم منهجك الذي لا أؤيده أن يسمعوا ويطيعوا، ولا يشقوا عصا الطاعة للحاكم، وأن معارضتهم خروج على الحاكم الشرعي، ويحرم الخروج على الحاكم، بنصوص كنت أتمنى أن تسردها جنبا إلى جنب مع النصوص التي سردتها مع لي أعناقها. ومع ذلك فأنا أؤيد المعارضة ضد الإسلاميين، حتى لو أدت إلى إسقاطهم سلميا باحتجاجات سلمية، أو بصناديق الاقتراع. لو كنت صادق النصح، فكان أولى من تنصح حكام الدولة التي تقيم فيها، وقد اقتادوا نساء ظلما، ورجالا لفقت لهم التهم، وسحبت منهم الجنسية، وهو أمر مخالف للشرع، ومخالف للقانون الدولي. ولكن نصحك يشتم فيه رائحة الغرض، فلذا وجهته حيث تهوى، لو كانت بوصلتك يا مولانا هي الحب والنصح لله، فابدأ بأقرب محيط لك تعيش فيه. ولو كانت صادق النصح، لنصحت من تقيم بين ظهرانيهم بتسليم لصوص سرقوا مال الشعب المصري، وآووا من أذوهم في مالهم وأنفسهم. فكما أنك تخشى أن يقف الإسلاميون بين يدي الله، فخشيتنا عليك أن تقف أنت أيضا بين يدي الله أكثر يا شيخ حبيب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله"، أليس من نصرة المسلم، ألا تخذل مسلمين مظلومين في بلد تحيا فيه، هانئا وادعا، أدام الله عليك الهناء والوداعة، والأمن والأمان، أليس من الإنصاف أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وينعم إخوانك مثلك بحقهم أن يكونوا بشرا، لهم ما لغيرهم من البشر، بل لهم ما لغيرهم من غير أهل البلد من غير المسلمين، وغير العرب، من حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية الحركة والتنقل؟ أم أن هذه نقرة وهذه نقرة يا مولانا؟!! ملحوظة: كتبت الرد على رسالة الداعية الحبيب الجفري، بعد مقاله مباشرة، لكني تأخرت في النشر، نظرا لأنه نشر بعد ذلك رسالة لأحد المختلفين معه حول المقال، ثم رده عليه، ولم أجده يختلف عن مقاله الأول في المنهج أو التفاصيل. [email protected]