علي ما يبدوا أن هناك من المسئولين من يريد إدخال الدولة في معارك في الاتجاه الخاطئ ، وإذا ما دخلوها فإنهم يدمنون البحث عن الحلول الصعبة ، والأمثلة علي ذلك عديدة ولا تنتهي ، ويمكنك تذكر قرار هدم أكثر من 150 عمارة في عزبة الهجانة؛ لمخالفتها تراخيص البناء، رغم مضي سنوات عديدة علي بنائها تحت سمع وبصر المسئولين. وأخر هذه المعارك الخاطئة ، معركة النقاب التي وصلت إلي أن يصدر وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات بالتبعية لقرارات تحظر دخول المنتقبات لجان الامتحان إلا إذا كشفن عن وجوههن طوال فترة الامتحانات ، مبررين هذا القرار بأنه يأتي لمحاصرة ظاهرة الغش في الامتحانات التي يمارسها بعض الطالبات تحت ستار النقاب الذي لا يرتدينه إلا في أيام الامتحانات . إدمان الحلول الصعبة: كان بوسع الوزير ورؤساء الجامعات أن يصدروا قرارهم هذا ويضعون آلية سهلة ويسيرة لمحاصرة الغش إن كان هو الدافع الحقيقي دون إهدار حق المنتقبات في اختيار الزى الذي يعتقدون وجوبه دينياً لكنهم اختاروا أصعب الحلول وهي إجبارهم علي كشف وجوههن أمام كل الحاضرين رجالاً ونساءً إذا ما أردن الاستمرار في التعليم. كان بوسع هؤلاء المسئولين أن يقرروا عقد لجان الطالبات منفصلة عن لجان الطلبة وتقوم بالمراقبة علي هذه اللجان نساء لكنهم لم يفعلوا؟ كما كان بوسعهم أن يخصصوا مجموعة من الموظفات يقمن بالتأكد من شخصية المنتقبات وأجراء التفتيش اللازم للنقاب والخمار للتأكد من عدم وجود أي وسائل غش تكنولوجية في حوزتهن ، لكنهم لم يفعلوا!! كان بوسع هؤلاء أن يخصصوا لجاناً لامتحان المنتقبات فقط فيها ويراقب عليهن نساء مثلهن ولا يكون هناك حاجة لتغطية وجوههن ، لكنهم لم يفعلوا!! نعم لم يفعلوا أي حل من هذه الحلول السهلة ، بل إن أحد رؤساء الجامعات أعلن أنه لن يسمح لأي منتقبة بدخول الامتحان حتي لو ارتدت الكمامة التي تنصح وزارة الصحة المواطنين ليلاً ونهاراً بضرورة ارتدائها لمواجهة وباء أنفلونزا الخنازير ، فأي تعنت وتعسف أكبر من ذلك ، إنه يا سيدي إدمان الحلول الصعبة. معركة في الاتجاه الخاطئ : إذا ما أردنا توصيفاً لهذه المعركة التي فرضها وزير التعليم العالي علي الرأي العام وفجرها في وجه شريحة من المواطنين فلن نجد أصدق من وصفها بأنها معركة في غير ميدان ، ومعركة في الاتجاه الخاطئ ، وقد تسأل لماذا هي كذلك؟ والإجابة أن هذه المعركة في الاتجاه الخاطئ لأكثر من سبب: أولاً: هي معركة خاطئة لأنها في اتجاه خاطئ يصطدم برأي فقهي معتبر يوجب علي المرأة ستر وجهها ، وقد أخطأ بعض رموز المؤسسة الدينية الرسمية حينما وصفوا النقاب بأنه عادة جاهلية لا يعرفها الإسلام؛ لأن أي متصفح لكتب الفقه الخاصة بالمذاهب الفقهية الأربعة يعلم أن حكم النقاب عند الفقهاء يدور بين الجواز والوجوب ، مع اتفاقهم علي وجوبه في زمان الفتنة وشيوع فساد الأخلاق، وفي حالة المرأة بالغة الحسن وضيئة الوجه. ثانياً:هي معركة خاطئة لأنها تهدر المبادئ الدستورية التي تقرر حرية المرأة في ممارسة شعائر دينها وحريتها الشخصية. ثالثاً: هي معركة خاطئة لأنها تميز بين المواطنين عندما تضع قيوداً علي زي البعض منهن وتطلق العنان لغيرهن في اختيار ما يشئن من ملابس فاضحة، وأي الفتاتين أولى بالرعاية: تلك التي تخرج إلى كليتها سافرة الوجه مكشوفة الشعر قد وضعت من المساحيق على وجهها متزينة وكأنها عروسة في ليلة زفافها، وقد كشفت عن مفاتنها وارتدت من الملابس ما يشف ويصف، وأكثر جسدها عار والباقي الملابس به ملتصقة، أم تلك التي تذهب لتحصيل العلم لا تكشف عن مفاتنها ولا زينتها لأحد معلنة أن القيمة الحقيقية للمرأة خارج بيتها إنما تكون بقدر أخلاقها وجهدها وإسهامها في قضايا مجتمعها لا بقدر ما تكشف من جسدها. رابعاً: هي معركة خاطئة لأن الذي فجرها الجهة المسئولة عن التربية والتعليم والتي يفترض فيها أن تعلم طلابها احترام الأخر والاعتراف بالتنوع واحترام الدستور و إعلاء القيم والأخلاق، والمناط بها تعليم الكافة كيفية التوفيق بين تحقيق الصالح العام بمنع الغش واحترام حقوق المواطنين وحرياتهم وعدم الاعتداء عليها. خامساً: هي معركة خاطئة في الاتجاه حيث كان ينبغي تشجيع هؤلاء الفتيات المنتقبات علي تحصيل العلم ودعمهم في اختيارهم للجمع بين الالتزام بدواعي الاحتشام والعفاف والخروج لتلقي العلم وخدمة المجتمع. سادساً: كان الأولي أن تأتي هذه المعركة في مواجهة قضايا أكثر أهمية وإلحاحا في مجتمعنا وما أكثرها خاصة فيما يخص العملية التعليمية التي تشهد تدهوراً متزايداً يوماً بعد يوم . معركة الوسائل الخاطئة: انتهج المسئولون عن التعليم الجامعي وسائل أقل ما توصف به أنها خاطئة في مواجهة المنتقبات حينما لجأوا إلي تخييرهن بين دخول الامتحان كاشفات الوجوه أو مواجهة الرسوب إذا ما تشبثن بنقابهن، وهذا يتطابق مع ذات الأسلوب الذي اتبع مع عضوات هيئة التدريس المنتقبات و المعلمات المنتقبات حينما منعن من الدخول للجامعة إلا إذا كشفن الوجوه بل إن بعض المدرسات بعقود عمل مؤقتة تم إنهاء عقدهن قبل انتهاء مدته لإنتقابهن. شظايا مدمرة : ويخطئ التقدير من يعتقد أن هذه المعركة الخاطئة ليست لها أثار سلبية تذكر؛ لأنها ستمضي مخلفة أثاراً مدمرة وشظايا متناثرة للأسف ستتحملها الدولة ككيان والوطن كملاذ، ويكفي أن نتأمل في هذه التساؤلات : - ألا تضع هذه المعركة الدولة في خانة الذين يحاربون الفضيلة ويخالفون الشريعة ويرفضون التعدد والتنوع في المجتمع؟ - ألا تضع المعركة الدولة في صف الدول غير إسلامية التي تحارب المظاهر الإسلامية في بلادها كايطاليا وفرنسا وسويسرا؟ - ألا يعتبر ذلك شحناً لنفوس شباب قد يتحمس ويري في مثل هذا التعنت دليلاً علي محاربة المسئولين للإسلام ؟ - ألا يصب ذلك في تعبئة شريحة من المواطنين ضد الدولة ويجلب مزيداً من التعاطف معهم ؟. - ألا يرسخ ذلك في النفوس ثقافة كراهية الآخر؟ - ألا يصب ذلك في النظر بعين الريبة للمجلس القومي للمرأة ومنظمات حقوق الإنسان الذين انتابتهم حالة من الصمت غير النبيل تجاه الحقوق المهدرة للمرأة المنتقبة؟ - ألا تعتبر إثارة هذه المعركة هو من قبيل محاصرة النقاب والتدين وليس من قبيل محاصرة ظاهرة الغش؟ هل هي حرب ضد النقاب أم ضد الغش؟ وهذا السؤال حري بالإجابة عليه خاصة وأن هناك من يرصد أكثر من قرار في ذات الاتجاه، فقرارات منع المنتقبات من دخول المدينة الجامعية، ومنع عضوات هيئة التدريس من دخول الجامعة وإنهاء التعاقد المؤقت مع بعض المعلمات المنتقبات بالمدارس ، وقيام وزارة الأوقاف بطبع 100000(مائة ألف) نسخة من كتاب " النقاب عادة وليس عبادة "، كل هذا يعتبره البعض يأتي في سياق محاربة النقاب والضغط علي المنتقبات لترك النقاب إن أردن التمتع بالحق في التعليم والحق في العمل ، ويأتي رفض المسئولين لأي حلول توفيقية بين ما يدعونه من حقهم في مواجهة الغش وحق المنتقبات في الالتزام بما يعتقدونه واجباً عليهم دينياً دليلاً علي أن الهدف هو محاربة النقاب لا الغش . وهذا القول تؤيده هذه الشواهد ولكن في المقابل نجد أن هناك شواهد تقف أمام هذا الاستنتاج ومن بينها : 1- رفض الرئيس مبارك الاستجابة لطلب أسامة شلتوت رئيس حزب التكافل بإصدار قرار بمنع النقاب أثناء اجتماع الرئيس مع بعض أعضاء اللجنة العامة لمجلس الشورى ( المصري اليوم -21نوفمبر 2006 ص 1) 2- ما قرره مجمع البحوث الإسلامية في جلسته المنعقدة في 31أكتوبر 2009م بحظر ارتداء النقاب في ثلاثة أماكن هي : أ- الفصول والقاعات الدراسية الخاصة بالبنات والتي يقوم بالتدريس فيها سيدات. ب- قاعات الامتحانات إذا كان كل من فيها طالبات والمراقبات من النساء ج - في المدينة الجامعية الخاصة بالطالبات والمخصصة لهن دون غيرهن ( جريدة الشروق 1 نوفمبر 2009م ص3) 3- ما قرره وكيل وزارة الأوقاف عن وزارته في مجلس الشعب في قوله: "أجمع العلماء علي أن الحجاب فريضة والنقاب غير مفروض ، " وعقب عليه الدكتور /أحمد عمر هاشم بقوله :" الحجاب فريضة والنقاب فضيلة ويصل إلي حد الفريضة إذا خشي علي من ترتديه الفتنة " ( الشروق ص 3في 12مايو 2009م ) وإذا كان هذا هو رأي رئيس الدولة و مجمع البحوث ووكيل وزارة الأوقاف ، فلماذا لا يلتزم به وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات؟ أم أنهم يفضلون الحلول الصعبة وغير المنطقية .؟ وأحسب أن كل منتقبة وكل متعاطف معها وما أكثرهم يرغبون في مناشدة رئيس الجمهورية التدخل بوضع حد لهذا العناء والتعنت معهن ، وبوصفهن شريحة من أبناء الوطن وإنهاء تلك المعركة التي أخطأت اختيار الاتجاه والميدان.