في مصر الآن قتل.. حرق.. تخريب... سباب.. تخوين.. تجهيل... تكفير.. إنها ليست سياسة ولا حزبية ولا تعددية ولا أفعال ثورية... إنها جرائم... تتزايد... تتكاثر... يقوم بها فوضويون.. وأصحاب أقنعة سوداء... ومجموعات تنتمي إلى أضيق انتماء.. دون الانتماء الأكبر لدين أو قضية أو وطن... وغير ذلك... الفلول جاهزون للانقضاض.. معهم مال وإعلام وبقية نظام... لن يربح من الساسة الجدد أحد.. إن معالجة هذه الظاهرة لن يكون بالأمن وحده (مع أهميته), لكنها تحتاج إلى إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية... وقبل ذلك وبعده ومعه فإن الظاهرة تحتاج إلى دعاة يعملون على توعيتهم وإرشادهم.. يقولون للناس إن القتل حرام.. والحرق حرام.. والتخريب حرام... والتكفير والتخوين والتجهيل والسباب حرام. ولكن من يقول هذا؟ أصل الحكاية لم ينكر بعض العلماء والدعاة على المستبدين استبدادهم وفسادهم, إيثارًا للسلامة من جهة, أو استنادًا إلى آراء فقهية من جهة أخرى, مع أن قطب الدين الأعظم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهل يوجد منكر أشد من الظلم والقهر والاستبداد والفساد؟ وحينما ثار الشعب (بحق) ضد الاستبداد سارع فريق من العلماء والدعاة إلى القول بأنه لا يجوز الخروج على الحاكم وأن من خرجوا عليه حكمهم في الإسلام حكم الخوارج, وكأنّ حسني مبارك هو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه!! من هنا ترسخ في ذهن بعض الناس أن بعض العلماء والدعاة يساندون الاستبداد والظلم.. بل وفهم بعض الناس أن الإسلام نفسه (كدين) يجيز ذلك, وحاشاه أن يكون... إنه دين العدل والرحمة.. إنه دين الحق والإنصاف... إنه دين ينتصف ليهودي مظلوم ضد مسلم من الأنصار ظلمه... إنه دين يعتبر أن سيد الشهداء هو من واجه الحاكم الظالم بظلمه فقتله الظالم.. ولكن كيف لمن لم ينفتح قلبه للدين أن يفسر موقف بعض العلماء وبعض الدعاة؟ وبعد تنحي مبارك وجد الناس أن الإسلاميين طُلاب سلطة, فقد أسسوا أحزابًا وخاضوا انتخابات وتحالفات, وكانت لهم مواقف سياسية أعجب بها أنصارهم وسخط آخرون.. انحاز الدعاة إلى أحزاب دون سواها... صنّف الناس مواقفهم على أنها أعمال حزبية لا دعوية. في نفس الوقت رأى الناس أن بعض الإسلاميين في دنيا السياسة والحزبية يكذبون.. وبعضهم للوعود يخلفون... وبعضهم بالمناصب يستأثرون.. وبعضهم لما كان من ثوابتهم يخالفون... فبدأت شعبية الإسلاميين تتناقص وتتآكل.. وبدأت الثقة فيهم عند قطاعات معتبرة من الشعب تتراجع.. وظن الإسلاميون أن من يعارضهم حزمة واحدة... صحيح أن بعض المعارضين انتهازيون... منهم من يستقوي بالخارج وبقوى الداخل... سقطوا في اختبار المدنية.. سقطوا في اختبار الوطنية.. سقطوا في اختبار الديمقراطية.. بعضهم يأكل الحقد قلبه حين يرى الإسلاميين في الحكم!! ومع ذلك فليس كل من يعارض النظام الحالي يستقوي بالعسكر أو بقوى الخارج أو بالفلول.. وليس كل من يعارض انتهازي لا يرى إلا نفسه فقط في المشهد... لقد وجدنا معارضة للحكم من رجال يثق الشعب بنزاهتهم لرصيدهم الديني والوطني والأخلاقي المعتبر.. لقد قرأنا للبشري وهويدي وسيف عبد الفتاح وأيمن الصياد كما تابعنا رموزًا وطنية معتبرة من السياسيين والقضاة ووجدناهم في موقف المعارضة لبعض المواقف والسياسات.. فالحكم لم يصل إلى حالة الرُشد... وليس لديه رؤية واضحة... ولا اختطّ لنفسه طريقًا واضح المعالم... قد يؤمن أن الوطن للجميع لكنه لم يترجم ذلك عمليًا... فيراه الناس وكأن مصر له وحده.. لفكره... لخريطته... لفريقه دون سواه.. فارتكب الأخطاء تلو الأخطاء... ودافع مناصروه عنه على كل وجه, بإنصاف وبدونه (حين لم يروا إلا أخطاء الفريق الآخر).. في المشهد المقابل بدت بعض مظاهر المعارضة تفتقد أي رشد أو أي مصلحة للوطن.. بل انتقل التعبير عن بعض المواقف إلى أفعال إجرامية... هذه الجرائم, والتي تحتاج لحلول متعددة ومتوازية... كان من الممكن أن يكون للدعاة دور لمواجهتها أو معالجة آثارها.. لكن من يستمع لهم؟ من يقول أن التخريب حرام سيظن بعض الناس أنه مع الحاكم وضد الثورة.. ولمَ لا؟ فالحكم منسوب للإسلاميين؟ إن الداعية حين يقول للناس إن هذا حلال وهذا حرام الآن لن يكون لكثير من كلامه صدى أو أثر... فحين اختلطت الحزبية بالدعوة ..سيظن الناس أن كلام الداعية لمصلحة حزبية.. لقد رأينا شغبًا ضد بعض المساجد وضد بعض الدعاة, بل قال لي أحد الإخوة من بورسعيد إن الملتحين والمنتقبات يتردد بعضهم في الخروج إلى الشارع.. بل وسمعنا عن اعتداء على أحد الدعاة الذين كان يجتمع عليه الناس للاستماع إلى تلاوته للقرآن وإلى خطبه!! أمام الدعاة سؤال كبير: هل وجود الإسلاميين في صدارة المشهد السياسي أفاد الدعوة؟ هل زاد ذلك من مساحة التدين في المجتمع؟ إن الإجابة ستكشف عن حقائق, ولعله من المفيد أن يتدارسها الدعاة ويخرجون بتوصيات.. سيتطلب ذلك جهدًا ووقتًا.. لكنه خير لنا أن بدأناه الآن قبل الغد... لأن كل يوم يمر يعني مزيدًا من الدماء والفوضى ونزف الاقتصاد والضرر بمصالح البلاد والعباد, فضلًا عن أضرار كثيرة لحقت بمسار الدعوة والدعاة.. [email protected]