مكانان فى هذا العالم لا يمكن للإنسان فيهما أن يهرب من ذاته.. هما الحرب والسجن.. وفى الزنزانة 54 عشت مع نفسى.. فقد كنت مشغولًا بأشياء كثيرة أعمل بالجيش، وأشتغل بالسياسة، بينما كان تيار الحياة اليومية يجرفنى معه أينما ذهب أو ذهبت، أما الآن فأنا أعيش فى الزنزانة 54 دون أن تكون لى صلة بالعالم الخارجى فلا راديو ولا صحف ولا أى شىء على الإطلاق. (من مذكرات أنور السادات البحث عن الذات) هذه الزنزانة التى كانت مكانًا شديد القذارة خاليًا من مستلزمات الحياة الآدمية، والتى عاش فيها أنور السادات عامًا ونصف كسجين سياسى محرومًا من كل شىء يصف أيامه فيها بأنها أسعد أيام حياته! السادات الذى أصبح فيما بعد رئيسًا لجمهورية مصر العربية وزعيمًا عربيًا مرموقًا يتذكر تلك الأيام السوداء فى حياته ويعتز بها كثيرًا، لاشك أنه فى حياته كرئيس وزعيم طاف العالم واستضافه ملوك ورؤساء ودخل أفخم القصور وعاش فى أجنحة ملكية واستمع لكثير من المفكرين والحكماء فما الذى وجده فى تلك الزنزانة الكريهة ولماذا يعتز بها؟ لقد وجد فيها نفسه، أتيحت له فرصة التخلص من كل زخرف الحياة ومواجهة حقائق الحياة المجردة، فاكتشف أن علاقته بربه هى أثمن كنز لا يمكن لمخلوق أن ينتزعه منه حتى فى السجن والحرب. لقد عرف الله واستقر اليقين والإيمان فى قلبه فاستراحت روحه واستهان بكل مظاهر اليأس والإحباط من حوله وسلم أمره إلى الله، صحيح أنه فى ذلك الوقت كان مطرودًا من الجيش فاقدًا للوظيفة والأهلية محبوسًا مقيد الحرية لا يملك من أمر نفسه شيئًا بل أنه كان متهمًا فى قضية اغتيال (أمين عثمان) ومهددًا بالحكم عليه حكمًا قاسيًا قد يصل إلى الإعدام، ولكن بصيص الأمل دخل إليه من ثغرة بسيطة جدًا فى محبسه. فقد وقع فى يده مقالًا لطبيب نفسى يقول إن الإنسان فى أية مرحلة من حياته معرض لأن يصاب بصدمة تكون نتيجتها أن يحس أن كل شىء حوله مغلق وكأنه فى سجن لا باب له. وأن أول باب لهذا السجن أن يعرف الإنسان ماذا يضايقه، وثانى باب هو الإيمان أن تعرف أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وبالإيمان وحده تواجه قدرك، وتتأكد أن هناك دائمًا حل لكل مشكلة عند رب العالمين قد لا نعرف الحل ولا يخطر ببالنا وكل ما علينا هو الدعاء والتوكل والصبر. إن ما تعجبت منه أن يتذكر رجل مثل السادات هذا الموقف على أنه أقوى وأهم المواقف فى حياته، وأن الشهور الستة التى قضاها بعد نزول السكينة فى قلبه هى أسعد فترات حياته! لم يقل أن أسعد أيام حياته هو يوم أن أصبح متقلدًا للمنصب الرفيع للرئاسة والحكم، أو يوم تحقق على يديه نصر أكتوبر العظيم، ولا يوم تزوج من حبيبته أو أنجب ابنه الوحيد بعد عدد من البنات، ولكنه ذكر فقط أيام الزنزانة الانفرادى والبُرش والفقر المدقع، وانقطاع الصلة بالعالم، والشعور باقتراب النهاية على كافة المستويات، ومنها نهاية حياته نفسها. إلى هذا الحد؟ نعم يقول ما تعلمته داخل الزنزانة أن النجاح الداخلى قوة دائمة مطلقة لا تخضع لأية مؤثرات خارجية على عكس النجاح الخارجى الذى يهتز ويتغير من وقت إلى آخر حسب الظروف والعوامل الخارجية وتظل قيمته دائمًا نسبية. وأن الحب هو أساس علاقة الإنسان بالكون كله، والسعى لخدمة الآخرين هو طريق السعادة، وكل ذلك ينتظم فى إطار معرفة الإنسان لربه.