أعتقد أن خطبة الشيخ العريفى فى مسجد عمرو بن العاص كانت أشبه بمركز مفترق طرق يفصل بين مرحلتين فى غير واحد من الشئون، فهى تفصل فى الخطابة بين مرحلة خطباء وزارات أوقاف حسنى مبارك وأزهر طنطاوى وبين جيل جديد نتطلع إليه من الخطباء القادرين على التصدى لمشكلات الوطن وآماله وطموحاته الواثقين فى بيانهم المنطلقة ألسنتهم، وهى تفصل فى العلم بين "العارفين" وبين جيل أبيض ناصع كالصينى بعد غسيله مثل "كريمة" ونظرائه، وهى تفصل فى العلاقات المصرية الخليجية بين مرحلة علاقات الحكام ومرحلة علاقات الشعوب، وهى تفصل فى الغاية منها بين مرحلة حفظ الله سيادة الرئيس ومرحلة حفظ الله الوطن. بدا العريفى فى خطابه الذى استمع إليه حول المسجد نحو مليون مصل وقوفًا شاخصة أبصارهم، واستمع إليه حول شاشات التليفزيون نحو الستين مليونًا داخل مصر وخارجها أكثرهم لم يستطيعوا مغالبة الدموع التى ظلت تنهمر من أعينهم ساعات طويلة، بدا العريفى فى هذا المشهد العاطفى العظيم مبعوث العلم فى أمة من الأميين الذين جهلوا تاريخهم وقدر بلادهم سنوات وسنوات، وغابت هويتهم المصرية خلف هويتهم المنوفية عقودًا سوداء طويلة، فأيقظ هممًا غلبها النعاس، وبدا العريفى موجهًا خطابه إلى أمة من الأميين أيضًا فى دول الخليج محطمًا أبجديات تعاملاتهم المالية، وباعثًا فى وجدانهم الاستثمارى بديهيات أغفلتهم عنها ظروف سياسية واقتصادية فى البلاد غير النفطية جعلت من إيداعهم أموالهم فى بنوك أوروبا بديهيات لا تحتاج إلى تبرير مادامت أفكار التأميم والبلطجة والابتزاز هى السائدة فى البلاد العربية التى تحتاج إلى استقبال تلك الأموال فى صورة استثمارات طويلة الأجل أو حتى فى التعامل فى بورصة الأوراق المالية. سنوات طويلة من السخرية من الخطب والخطباء يشهدها كل متابع للسينما المصرية والإعلام المصرى، ففى برامج الفوازير مثلًا وبعد أن يسأل "الأراجوز" سؤاله الأول "فيلم ولا مسرحية؟" يضع يده على رأسه فى وضع مستدير قاصدًا الإشارة إلى اللغة العربية على أنها لغة المعممين والمطربشين، أما "خنفس" أو "سوسو" فهو يتحدث العامية بلكنة "فغنسية" وهو بكل تأكيد لا يتحدث الفرنسية، وإنما هو مجرد تعدٍ وقح على اللغة العربية والمتحدثين بها، وحتى فى المدارس تجد المعلم الفاشل حاقدًا وغيورًا من موهبة الخطابة متى وجدها فى أحد طلبته فلم يزل ينهره بقوله "إنت حتخطب لنا؟"، بل وفى المنزل أصبح الصدر أضيق من أن يتسع للأبناء يعبرون عن مكنون عقولهم وبنات أفكارهم بلسان عربى مبين، وحتى فى أوساط العاملين فى المحاماة ورغم أن الفقه قد استقر على ضرورة أن يتحدث المحامى بلسانه العربى وبصوت جهور يقرع سمع المحكمة إلا أننا لا نعدم أبدًا قاضيًّا يقول "اخفض صوتك يا أستاذ"، وغالبًا ما تجد هذا الأستاذ يقول "أى حاجة فى أى حاجة"، حتى جاءت الطامة الكبرى عندما استمعنا إلى رئيس محكمة الجنايات يتلو علينا الحكم فى محاكمة القرن – كما يسميها البعض – ورغم أنه كان يتلوه من ورقة مكتوبة ورغم أنه هو الذى كتبها ورغم أنه أجل الدعوى ستة أشهر حتى يكتب تلك الورقة ورغم أننا "كنا حنتنقط"، بسبب الأخطاء التى ارتكبها إلا أن الله سلم ولم "ينشل" أحد بسبب الطريقة التى قرأ بها القاضى ذلك الحكم . مطلوب خطباء.... مطلوب أن نعود إلى العقد الرابع والخامس من القرن الماضى عندما كان مكرم عبيد باشا يحفظ نصف القرآن رغم أنه قبطى حتى يستقيم لسانه وهو يترافع فى المحاكم أو يخطب فى الأندية والمؤتمرات... فهل لدى أحد خطة ليعيد لنا لغتنا وهويتنا وقدرتنا على التعبير فى هذا الفضاء العريض. [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]