عندما يهب الله دولة مثل مصر ثروات بشرية، فهذه ليست نقمة، بل هى نعمة إذا ما أحسنا صقلها وتوجيهها فى الاتجاه الصحيح. وكل الدول التى أحرزت باعًا فى التقدم قد ركزت على ثرواتها سواء البشرية أو الطبيعية. ومشكلة دول العالم النامى، وخاصة مصر أنها تنظر للطاقة البشرية نظرة قصيرة المدى وتتعامل معها على أساس أنها طاقة عاطلة لا أمل فى استغلالها، وبالتالى فهى عبء ينبغى التخلص منه عند أول منحنى فى الطريق. ولكننا نجد على سبيل المثال تجربة الهند والصين وماليزيا فى استغلال طاقاتهم البشرية أثبتت عكس ذلك تمامًا.. فلقد غزوا العالم فى مجال تكنولوجيا المعلومات والصناعة الإيجابية وها هم يعملون فى كل بقاع العالم ويدرون أموالاً طائلة بالعملة الصعبة لبلادهم. وهى طاقة لن تنضب بل ستتزايد جيلا بعد جيل. وإن كان تقدم الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، وفرنسا - وهم الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية – طبيعياً، فإننا من غير الطبيعى أن نجد من بين الدول المتقدمة (ألمانيا، واليابان)، وهما الدولتان الخاسرتان فى الحرب! وهما خير نموذج للاهتمام بالاستثمار فى تنمية الموارد البشرية، وخاصةً اليابان، التى لديها ندرة شديدة فى الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك؛ فقد استطاعت بما تمتلكه من ثروة بشرية أن تبنى اقتصاداً قوياً، تقف من خلاله بين مصاف الدول الثمانية الكبار. يتضح لنا من الإحصائيات أن معدل الزيادة السكانية فى مصر طبيعى جدا جدا جدا.. فلماذا تتذرع الحكومات المصرية المتتابعة والمتتالية وتنسب فشلها فى التخطيط وتوظيف الموارد على هذه الزيادة السكانية الرهيبة من وجهة نظرهم، والتى تدعى الحكومة أنها تقضى على أى زيادة فى الدخل؟ كان المفهوم القديم للتنمية البشرية مقتصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية، أي: كلما استطاع الفرد أن يحصل على المزيد من تلك السلع والخدمات؛ كلما ارتفع مستوى معيشته؛ ومن ثَمَّ زادت رفاهيته، وهنا تتحقق التنمية البشرية. إلا أنه مع توسيع مفهوم التنمية ليشمل العديد من النواحى النفسية مثل: الغايات والأهداف الخاصة بالفرد، والتى يحقق معها ذاته وطموحاته... إلخ، إضافةً إلى الأهداف الاقتصادية، مما أدى إلى تغيير مفهوم التنمية البشرية من مجرد إشباع النواحى الفسيولوجية للفرد - كدليل على وصوله إلى مستوى معيشى كريم - إلى مفهوم التنمية البشرية الأوسع، والذى يرتبط بجودة حياة الفرد، بإشباع حاجاته الفسيولوجية والسيكولوجية معاً؛ وليس حياته الفسيولوجية فقط. فالتنمية البشرية تهدف إلى توسيع مدارك الفرد، وإيجاد المزيد من الخيارات المتاحة أمامه، كما تهدف إلى تحسين المستويات الصحية، والثقافية، والاجتماعية، وتطوير معارف ومهارات الفرد، فضلاً على توفير فرص الإبداع، واحترام الذات، وضمان الحقوق الإنسانية، وضمان مشاركاته الإيجابية فى جميع مناحى الحياة فالاستثمار فى تنمية الموارد البشرية أمر هام وضروري، لما للموارد البشرية من أهمية قصوى؛ فهى الثروة الحقيقية والرئيسة للأمم، والأمم المتقدمة أيقنت تلك الحقيقة؛ فأحسنت التخطيط الاستراتيجي، ونفذت برامج محددة لتنمية هذه الثروة البشرية على مدار عقود من الزمان، ونجحت فيما خططت ونفذت، وها هى اليابان خير شاهد على نجاح الاستثمار، وها هى الصين – صاحبة المليار ونصف المليار من البشر - تخطو بخطى ثابتة ومدروسة نحو قيادة العالم، من خلال هذه الثروة البشرية الهائلة، التى جعلت منها ميزة تميزها عن سائر الأمم، ولم تجعل منها عبئاً ثقيلاً أو شماعة تلقى عليها فشلها كما تفعل كثير من حكومات العالم النامى - كما يسمونه. إن الدولة التى لا تستطيع - أو تعجز عن - تنمية مواردها البشرية لا يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها المخططة والمأمولة، مهما ابتكرت من وسائل، وإنما يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها عن طريق تضافر جميع عناصر الإنتاج: (الأرض، والعمل، ورأس المال، والإدارة)، ونلاحظ أن العنصر البشرى بما حباه الله - سبحانه - من عقل وطاقات وجهد بشرى يمثل عنصرين من عناصر الإنتاج، وهذا التضافر يؤدى بلا شك إلى التطور والتقدم المنشود، وسؤالنا الدائم أيهما أفضل للحكومة: أن يكون لديها شعب محطم سيكولوجيا أم شعب متفائل؟ شعب معظمه تنابلة سلطان أم شعب ديناميكى مقبل على الحياة؟ شعب يثق فى حكومته ويضحى فى سبيل تنفيذ خطط طويلة وقصيرة المدى؟ أم شعب من فرط يأسه لم يعد يسمع أو يثق؟ نحن فى حاجة ماسة لرفع معنويات شعبنا وإعادة ثقته فى حكومته قبل أن نشرع فى أى تخطيط للمستقبل، فبدون ثقة الشعب فى حكومته لن يجدى أى تغيير.. وحتى نعيد ثقة الشعب فى نفسه وفى حكومته لابد أن يكون هناك هدف قومى مشترك وحلم قومى مشترك وأن تعمل الحكومة على إعادة هذه الثقة من خلال المصارحة التامة، ومن خلال حملات التوعية القومية الحقيقية والصادقة.