تناولتُ في الجزء الأول من المقال بعضًا من الشجون الخاصة بالشأن القضائي في مصرنا وفي هذا الجزء نستكمل باقي الموضوع. فلو حَسُنت النوايا، وصدقت دعاوى استقلال القضاء، لكان تفعيل دور قسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة، وإلزام جميع الوزارات والجهات الحكومية، بعرض جميع القرارات عليهما حسب الاختصاص، بديلًا عن نظام تلوك أهدافه الألسن، وتلتصق به الشبهات، وبذلك يسعى العمل إلى القضاء، لا أن يهرول القضاء إلى العمل في بلاط السلطة التنفيذية. ومن عجب أن المشرع الدستوري إبان عمل الجمعية التأسيسية، كان قد انحاز للأصوات الداعية لإلغاء الندب فثارت ثائرة البعض! فعدل عن ذلك، واعتنق فكرة الندب الكامل، فيما نص عليه بالمادة (170) من الفصل الثالث الخاص بالسلطة القضائية بالدستور الجديد، وكان حريًا إلغاء الندب قولاً واحدًا؛ سدًا لذرائع ووأدًا لعملية اختراق القضاء. والفساد حين يستشري في قطاع ما؛ فهو أمر وارد ومعتاد، ويطهره القضاء الواعي الحيّد النزيه المستقل، لكن حين تسود القيم الفاسدة داخل بعض مفاصل القضاء فهي طامة بكل المعايير، والطامة الأعظم أن يمتطي بعض رجال القضاء فكرة الاستقلال والصالح العام؛ لمآرب خاصة؛ ليخرج عن كل الأعراف والقيم والتقاليد القضائية المستقرة على مدار السنين، فيتعاطى السياسة بصورة منفرة، فيرفض إعمال القوانين الصادرة عن مؤسسة التشريع، ويهدد ويتوعد رئيس الدولة، ويتحدى قراراته، ويقدم بدائل حسب قناعاته، ثم يتمرد ويمتنع عن أداء الواجب المفروض عليه قانونًا بالإشراف على الاستفتاء، ويعلق العمل في المحاكم، وهي بلا شك مؤسسات عامة، وليست بوتيكات خاضعة لرغبة مالكيها، وفي ذلك كله تضييع للمصالح، والجنوح بالقضاء إلى ممارسات أبعد ما تكون عن رسالته ووظيفته، فدور القاضي في الأساس تطبيق القانون بحالته، فلا يجوز له أن يمتنع عن تطبيق قاعدة قانونية؛ ولو بدت له ظالمة، أو يعتريها العوار من وجهة نظره، بل عليه تطبيقها كما هي، ويترك شأن تغييرها أو تعديها لسلطة المشرع، وإلا عُدّ القاضي منكرًا للعدالة ويتعين عقابه وعزله إن لزم الأمر، وهذا عين ما حدث بالفعل للمستشار محمود غراب (عليه رحمة الله) حين أراد أن ينزل أحكام الشريعة الإسلامية، على بعض الجرائم الحدية، والتي تنظم بموجب القانون الوضعي، ليستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكان مصيره العزل من منصبه نكالًا له لمخالفة القانون، وإنزال غير حكمه على ما عرض عليه من جرائم حتى لو كان الحكم هو حكم الشرع! فإذا كان هذا رد الفعل على تعطيل حكم القانون في مجرد جنحة، لا قيمة لها قانونًا تجريمًا وعقابًا؛ فلماذا الصمت على دعاوى تعليق العمل بالمحاكم، وتعريض مصالح الناس للضرر المحقق، والتظاهر بالأسلحة المرخصة، وممارسة الإكراه والقهر على النائب العام، وعدم الاعتراف به كسلطة شرعية، وعقد المؤتمرات ذات الصبغة السياسية والتي دُعي لها المتردية والنطيحة؛ لنقد ورفض السياسات العامة والقرارات الرئاسية، ثم بعد تلك المشاغبات تتحمل الدولة رواتبهم وامتيازاتهم ويستحلونها سحتًا من أموال الشعب؟! إن حال العدالة في مصر يدمي القلوب، واللجوء إلى القضاء العرفي بديلاً عن القضاء الرسمي أصبح ظاهرة، والفساد في أروقة المحاكم ظاهر للعيان، ولا تكاد تقضى المصالح المشروعة بطرق قانونية، وتأخير الفصل في القضايا لسنوات حدث ولا حرج، ولا يُسأل عن هذا الوضع القاضي وحده؛ لأن عمله يعتمد على دولاب عمل كامل من المعاونين، قطعًا منهم من يرتكب الموبقات ويخنق عنق القانون من أجل الحصول على المال، بسبب ضعف الرواتب وكثرة المغريات، ناهيك عن الوساطات والمجاملات. إن إصلاح مؤسسة القضاء يجب أن يكون شاملًا، ولا يستثنى أحد بداية من حاجب المحكمة وانتهاءً بأعلى الدرجات القضائية، وفي شتى عمليات التوظيف والترقي، مع إصلاح هيكلي للأجور، حتى لو استحدث تشريعًا يقرر رسومًا معينة، يخصص عائدها للعاملين بالقضاء، عفافًا لهم باختلاف وظائفهم، وتحقيقًا لعدالة الأجر لما يقدمونه من عمل جليل، ولا يحتج بأن العمل القضائي يجب أن يكون مجانيًا، لأن في ذلك مزايدة على الواقع لأمرين أولهما أن القضاء في الدول المتقدمة يأخذ بفكرة الخدمة مدفوعة الأجر، والثاني أن القضاء لدينا واقعًا ليس مجانيًا، لكن المقابل يذهب هباءً لجيوب الفاسدين ولا تنتفع منه خزينة الدولة.