فى هدأة الليل وانبثاقة الفجر سُمع هذا الصوت يقول : ذهبتُ سنة ست وأربعين إلى مصر ، وكان الطريق على فلسطين فأقمت فيها عشرة أيام ، وكان لى فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين ، فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود ، على قعودهم وإهمالهم جمع المال وشراء السلاح ، فقالوا : إن الأيدى منقبضة والنفوس شحيحة ، قلت: لا ، بل أنتم المقصرون. قالوا: هذا تاجر من أغنى التجار ، فهلم بنا إليه ننظر ماذا نأخذ منه ، وذهبت معهم إليه فى مخزن كبير حافل بالشارين ، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالا …..وكلمناه وحشدت له ما أقدر عليه من شواهد الدين وأدلة المنطق ومثيرات الشعور ، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية ، ما أحست بها فضلا عن أن ترتج منها وقال : أنا لا أقصر ، أعرف واجبى وأدفع كل مرة الذى أقدر عليه قلت له : وهل أعطيت مالك كله ؟ فشده وفتح عينيه، وظنَّ أن الذى يخاطبه مجنون وقال : مالى كله ؟! ولماذا أعطى مالى كله ؟ قلت : إنَّ أبا بكر لما سُئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله……قال :ذاك أبو بكر، وهل أنا مثل أبى بكر ؟ قلت: عمر أعطى نصف ماله ، وعثمان جهَّز ألفا …. فلم يدعنى أكمل وقال : يا أخى ، أولئك صحابة رسول الله الله يرضى عنهم أين نحن منهم؟ قلت : ألا ترى أن البلاد فى خطر وأننا إذا لم نعطِ القليل ذهب القليل والكثير ؟ قال : يا أخى الله يرضى عليك اتركنى بحالى . أنا رجل بيَّاع شرَّاء لا أفهم فى السياسة وليس لى بها صلة ، وهذا مالى حصلته بعرق جبينى وكد يمينى ، ما سرقته سرقة ، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادى وأحفادى بلا شىء؟ قلت: ما نطلب مالك كله ولكن نطلب عشره قال : دفعت ما علىّ، ماقصرت ، وأعرض عنا وأقبل على عمله ! ومرت سبع سنوات ….وذهبت للقدس ومررت بمخيم اللاجئين وأقبل الناس يسلمون علينا ، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنى الظهر غائر الصدغين رث الثياب فلما رآنى حار وأبلس …إنه هو …هو يا سادة …وكلمته فتجاهلنى ، فلما ألححت عليه اعترف ولم أشمت به وقلت : لا تيأس من رحمة الله . قال : الحمد لله أن جعلنا عبرة ولكن أرجو أن يكون إخواننا فى الشام ومصر والأردن قد اعتبروا …….هنا أغلق عمر الكتاب بعدما تعب صوته من القراءة وكلّت عينه من التدقيق فى الكتاب على ذلك الضوء الخفيت وقال : رحم الله الشيخ على الطنطاوى ، لكأنه يصف أحوالنا وما نقاسيه فى بلدنا سوريا ….ربت على كتف أخيه الصغير" مجد" ومسح على شعره ونظر إلى أمه متأملا ملامحها وقال : لقد تخلى عنا الجميع …وتُركنا للقصف والدمار والجوع والقهر والطغيان …ثم أمسك بمدفعه الرشاش ونصبه ….حتى ما فى أيدينا من سلاح نخشى أن ينفذ …..وما العمل إذن يا أمى ؟ نظرت إليه أمه فى حنان بالغ وقالت : يا عمر ، لقد اختارنا الله جلَّ وعلا لنكون أهلا للرباط والجهاد لرفع الظلم والقهر عن بلدنا ، ونعلى دين ربنا …لا تبالِ يابنى بمن تخاذل عن نصرتنا ؛ فورب الكعبة إنه هو الخاسر ؛ أوليس فى ما قرأته منذ قليل من عبرة ؟ تنهد عمر وقال : صدقتِ يا أمى ….صوتٌ عنيفٌ يقتحم هدأة الليل ويقترب من المكان ، حملق عمر واتسعت عينه وتقلَّد مدفعه الرشاش وانتصب واقفا ، وأمر والدته ومجد بعدم الخروج وانطلق كالبرق الخاطف …..دوى طلقات وقصف عنيف يحيط بأرجاء الحى ، ومجموعات من "الشبيحة" يحاولون التسلل إلى الحى ….تصدى لهم عمر مع غيره من رجال الحى وشبابه وراح يطلق زخّات مدفعه الرشاش فى إتجاههم فى مهارة متقنة ….مرَّ قدرٌ من الوقت وهم فى لهيب معركة مشتعلة حتى انبلج الصبح وخفتت أصوات الدوى شيئا فشيئا ، نظر أحدهم وصرخ مكبرا: الله أكبر لقد فروا هاربين احتضن الأبطال بعضهم بعضا ملوحين بأسلحتهم وعلامات النصر …..قفز عمر مسرعا إلى بيت أمه ليطمئن على حالها وحال أخيه الصغير مجد ..ركض عمر ووصل إلى بيت أمه ليجد أن القصف قد طال بيتين من الحى أحدهما بيت أمه …..ركض مسرعا وألقى بأحماله من الذخيرة ، وبدأ يرفع ما تهدم من دار أمه وينقب وقلبه ينتفض حتى وجد أمه تحتضن أخاه مجد ودماؤهما تسيل وقد استشهدا جرَّاء القصف ….انهارت قوة عمر وخارت ، وجلس على الأرض باكيا وهو يردد : إنا لله وإنا إليه راجعون …إنا لله وإنا إليه راجعون لمح عمر ورقة وسط الركام مختلطة بالدماء ، أقبل عليها ومسح ما عليها من دماء وقرأ فيها : " علة العلل فى الشرق: النوم والغفلة ،والإنقسام والتنازع ، ولولاها ما ملك أجنبىٌّ من أرض الإسلام شبرا واحدا" قبَّل عمر الورقة ووضعها فى جيبه لأنها تذكره بعزيز ؛ إنها جزء من كتاب الشيخ على الطنطاوى الذى كان يقرأ فيه مع أمه وأخيه مجد قبل القصف . أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]