من لدن يزيد بن معاوية وحتى جمال مبارك ، وعلى امتداد عصور التاريخ ووصولا للحاضر الذي نعيشه ، كان مبدأ توريث الحكم هو السبب الرئيس لنكبات وويلات الشعوب وعاملا مباشرا لسقوط الدول وانهيار القيم . نفس السيناريو القديم يتكرر في تطابق عجيب يعيد اقتباس واستلهام فصول مسرحية هزلية مليئة بالأخطاء الكارثية المدمرة ، وقع فيها السلف ويصر عليها الخلف . فقد شكل مبدأ توريث الحكم منعطفا حاسما ونقطة تحول مفصلية في المسار التاريخي والحضاري للأمة .. لما أحدثه من مردودات سياسية وتراكمات سلبية على مر العصور .. فقد أحدث هذا الفعل المشئوم الذي بدأ بتوريث معاوية بن أبي سفيان الحكم من بعده لابنه يزيد انقلابا معاكسا في حكم الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة ، وكان بمثابة ردة (سياسية) وتقاطعا مع مبدأ الشورى الذي سنه الإسلام وسار عليه الحكام في عصر صدر الإسلام ومرحلة الخلافة الراشدة ، وهو العصر الذي ينظر إليه المسلمون بفخر واعتزاز ، ويعتبرونه النموذج والمثل . أحدث توريث الحكم نقلة نوعية (سلبية) في تاريخ العرب وحول الحكم الإسلامي من حكم راشد يعتمد الشورى وينتهج الحرية ، إلى ملك عضوض يتأبد عصورا خلف عصور ، ويتحكم في رقاب البلاد والعباد أجيالا بعد أجيال . فكان بمثابة بذرة خبيثة نبتت في أجواء الفتن والمؤامرات ، وحصدتها الأمة ضعفا واضمحلالا وتفككا في بنية الدولة ، وتخلفا وانحطاطا في مسار الحضارة ، وهي نتيجة مؤكدة وحقيقة دامغة يرصدها الباحث المدقق لاتجاهات صعود واضمحلال الحضارات والمتتبع لحركة التاريخ الإنساني العام . فإذا نظرنا لأسباب اضمحلال وسقوط الدول الإسلامية المتتابعة ، بدءا من الدولة الأموية وانتهاء بالدولة العثمانية ، ومرورا بالدولة العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية ، وإذا عرجنا إلى الممالك الإسلامية التي قامت في الأندلس وإيران والهند واسيا الوسطى وغيرها من المناطق التي شرق إليها الإسلام وغرب .. سنجد توريث الحكم في مقدمة الأسباب ومن أهم العوامل ، ففي بداية تأسيس الدول نرى دائما حكاما أقوياء بذلوا جهودا كبيرة في تدعيم حكمهم وإقامة أركان دولتهم ، وفرض سيطرتهم الكاملة على السلطة .. وبمرور الوقت يخلف هؤلاء الحكام أبناء ضعاف يرثون الحكم ويسيطر عليهم رجال الحاشية من أعوان الحاكم الراحل ، ويصبحون ألعوبة في أيديهم يحركونهم كيفما شاءوا .. وسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم تصبح التربة خصبة لتنازع المصالح وتصارع القوى داخل النخب الحاكمة ، الأمر الذي كان يؤدي دوما إلى شيوع الاضطرابات والفوضى واستفحال الأزمات والنكبات ، التي تكون في بدايتها (اقتصادية) وتنتهي – في الأغلب – (سياسية وعسكرية) .. وتمهد تلك الظروف في نهاية المطاف الطريق لأحد أمرين : إما حدوث انقلابات داخلية عنيفة تقلب المعادلة وتعيد تشكيل الخرائط السياسية من جديد ، أو فتح الباب على مصراعيه للغزو الخارجي . والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة .. والقارئ للتاريخ العربي والإسلامي بمقدوره الوقوف على عشرات بل ومئات التجارب المماثلة ، الحافلة بالكوارث والأخطاء والمليئة بالأسى والمرارة ، وكان السبب – في معظمها – حاكما جائرا أو ملكا طفلا جاء بالتوريث وتسبب في نكبات البلاد ، وسكتت عنه النخب خوفا أو طمعا ( متقلبين بين ذهب المعز وسيفه ) . لهذه الأسباب يتحتم على كل من ينادي بالإصلاح (حاضرا) أن يعيد قراءة التاريخ جيدا ، ويعي هذه التجارب مستخلصا منها العبر .. فمنذ زمن معاوية وحتى يوم الناس هذا لم تتغير مبررات النخب الحاكمة لتوريث أبنائها السلطة ، ودائما تكون : المحافظة على الاستقرار ووحدة البلاد ، وعدم ضياع الإنجازات والمكتسبات !! وينتاب المرء في الواقع حيرة كبيرة حين يفتش عن هذه المنجزات والمكتسبات ومعرفة المقصود بها ، عندما يجد نفسه يعيش في حاضر متخلف وأجواء كئيبة مليئة بالقهر والفساد ، ولا يرى حوله سوى الهزائم والكوارث والنكبات .. ويرتاح المرء أخيرا حين يدرك أن المقصود بذلك – قطعا - هو منجزات الحكام الشخصية في الوصول إلى سدة الحكم وفي تأبيد سلطتهم ، ومكتسباتهم المالية في التكويش على الثروات ، ويعود هذا اللبس بالتأكيد إلى اختلاط المفاهيم في ذهن النخب الحاكمة ، التي زاوجت بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة .. وربطت بين المصالح الاستراتيجية للبلاد وبين أهدافها الشخصية في التأبيد في الحكم .. ومن ثم أصبح استقرار البلاد رهنا باستقرارها في الحكم ، وبات من يعارض الحكم أو ينادي بتغيير الحاكم ، خارجا على القانون ، ومناهضا للشرعية ، بل وخائنا للوطن .. يستحق أن يهدر دمه ويهدد في أمنه ورزقه وينكل به بأشد أنواع العقوبات . ان مبدأ توريث الحكم حرم الأمة عصورا طويلة من تحقيق مبادئ الشورى والحرية والعدل (الديمقراطية) ، لأنه جعل من تغيير الحكام سلما (تداول السلطة) أصعب من الوصول إلى الشمس ، وجعل من تطبيق مبادئ الشفافية والمساواة (حقوق الإنسان) أحلاما غير قابلة للتحقيق .