بعد أن أصبحت الساحة السياسية في انتظار من يفكرون في ترشيح أنفسهم لرئاسة جمهورية مصر العربية في تلك الحقبة بالغة الأهمية قوميا وعالميا، يكون طبيعيا ومنطقيا أن تفكر بعض العناصر الحزبية والمستقلة في التقدم للترشيح لهذا المنصب الرفيع، ويكون من المفترض أن يتم هذا التفكير طبقا لاعتبارات موضوعية بعيدا عن أجواء الهزل والتهور، لأن قيادة الدولة تتطلب توافر مؤهلات عالية وصفات خاصة جدا، نظرا لخطورة هذا الموقع والدور الذي يؤديه من يشغله في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العالم ككل، وبالتحديد في هذه المنطقة التي ابتليت بتحديات وأخطار لم تشهدها من قبل. لهذه الأسباب مجتمعة، لا أكون مغاليا إذا نصحت من يفكرون في ترشيح أنفسهم بعدم الاستسلام لأحلام اليقظة أو الانقياد وراء سراب خادع زائف، لأن الناخبين من شتي شرائح المجتمع لا يمكن أن يستخفوا باختيار الشخص الجدير بثقتهم، القادر علي تنفيذ طموحاتهم إلي حقائق ملموسة، فهم يدركون جيدا أن قيادة الدولة هي في جوهرها مسئولية قبل أن تكون سلطة، وأمانة وليست نزهة أو ترفا، ولذا فهي تتطلب ممن يختاره الشعب لحمل رايتها قدرة هائلة علي اتخاذ قرارات مصيرية في أوقات عصيبة، لأن عجلة التاريخ كثيرا ما تأتي بما لا تشتهي السفن، وما لم يخطر علي قلب بشر، ولذا يكون من المستبعد تماما أن يعهد شعب بقيادته إلي شخص لا يملك ملكات استثنائية، أو يوافق علي المقامرة بمستقبله واختيار رئيس يفتقر إلي تلك القدرات والملكات والمواهب التي تؤهله لمواجهة شتي الضروب والاحتمالات. وإذا كان أحد من الطامحين في حاجة إلي دليل يهديه إلي اتخاذ القرار الصحيح في هذا الشأن قبل أن يحزم أمره ويقرر خوض المعركة الانتخابية لهذا الموقع القيادي، فإنني أستطيع بحكم مشاهداتي وتجاربي أن أزكي له أن يطرح علي نفسه والقريبين منه الغيورين علي مصلحته وعلي مستقبل الوطن بعض الأسئلة والاختبارات اللازمة، قبل أن يقدم علي خطوة الترشيح في عجلة، أو في غمرة زهو كاذب ورغبة جامحة في الظهور والاستعراض، أو انصياعا لنصائح توجه له ممن ينقصهم الصدق والحكمة وحسن التقدير، وكل ما يهمهم هو العزف علي أوتار النفاق والرياء جريا وراء مكاسب شخصية ومنافع مادية ولو بأساليب ملتوية. إذن فعلي من يفكر في الترشيح أن يستمع لمن يصدقه القول ويصارحه بالأبعاد المختلفة للموقف، حتي يستطيع أن يتخذ قراره المبني علي أساس موضوعي بعيد عن الغرور والتغرير، وعليه ألا يكترث في كثير أو قليل بحديث الرياء الذي يؤدي إلي افتتان الشخص بنفسه وقدراته ومواهبه، وبذلك يوقعه في التهلكة ويسيء إلي صورته واعتباره، ويجعله عاجزا عن الظهور في أعين جماهير الناخبين بمظهر الشخصية التي تتوافر فيها القدوة والكفاءة لشغل أرفع المناصب والصعود إلي أعلي الدرجات بصرف النظر عن تواضع قدراته. ولعل من المناسب أن أتحدث في هذا الموضوع عن المؤهلات والقدرات التي يجب أن تتوافر في شخص المرشح لهذا المنصب علي النحو التالي: أولا: أن يكون المرشح ملما إلماما كافيا بتاريخ بلده وتراثه، وخاصة في الماضي القريب، الذي مازالت أحداثه مؤثرة في مسيرة الوطن في الوقت الحاضر، وقادرا علي استيعاب أسباب نجاح أو فشل أي سياسات قام السابقون باتباعها، وإلقاء نظرة موضوعية مدققة علي الأساليب التي اتبعت في تطبيق تلك السياسات، والعثرات التي صادفتها. وتغلبت علي البعض منها وعجزت عن التعامل مع العقبات الأخري، لأن الحاضر لا يمكن فهمه وتشخيصه، دون استخلاص الماضي بدروسه وعبره، والبناء عليه في الحاضر والمستقبل، حتي يرتفع البناء الوطني ويقوم علي أرض صلبة. ثانيا: يجب أن تكون لدي المرشح خبرة كافية باتخاذ القرارات الحاسمة، والمفاضلة بين مختلف الخيارات المتاحة عند التعامل في القضايا الكبري والمواقف الصعبة، وعلي وعي كاف بأثر هذه القرارات علي المصالح العليا للوطن، ويجب أن يتجنب هذا المتطلع للرئاسة الاعتماد علي قدرته علي الغاء القرارات أو تعديلها بعد أن يصدرها، لأن المصالح العليا للوطن لا يصح أن تكون محلا لأسلوب الهواة الذين يفتقرون إلي الخبرة والقدرة علي التمييز وحسن تقدير الأمور، وتلك كلها قدرات لا تتوافر بالسليقة، وإنما يصل إليها الإنسان بالممارسة المتصلة ومعايشة الهموم ليل نهار، وكل هذا يفرض علي الإنسان أن يتجنب اتخاذ أي قرار بأسلوب عشوائي، دون فحص دقيق واجراء حساب المنافع التي يمكن أن يجنبيها الوطن، والأضرار التي يمكن أن يتعرض لها. ثالثا:أن تتوافر للمرشح القدرة التي تمكنه من تشخيص الأوضاع القائمة في الوطن تشخيصا سليما وتحليلها بأسلوب علمي، وبلورة رؤية أو رؤي متعددة لتطويرها إلي الأحسن، بحيث لا يعتمد علي شخصيات أو مؤسسات معينة تتحمل هذا العبء نيابة عنه، وإنما تكون لديه القدرة الذاتية علي المفاضلة بين الخيارات المتاحة والأساليب التي يمكن اللجوء إليها، وله بعد هذا أن يستعين ببعض المؤهلين في تخصصات معينة فيما يتعلق بالتفاضل والنواحي الفرعية، علي أن يتم هذا تحت اشرافه ومتابعته، لأنه هو المسئول في التحليل الأخير من أي قرار يتخذ علي هذا المستوي، بل إن الجماهير كثيرا ما تعتبره مسئولا عن القرارات التي يصدرها معاونوه وأعضاء مجلس الوزراء، حتي في القضايا التي لا يشترط الدستور أن يقوم الرئيس بالتصديق عليها واعتمادها. رابعا: أن يكون المرشح قد اشتهر بالقدرة علي الادارة بأسلوب علمي رشيد، بما يتطلبه هذا من قدرة علي التحليل ودراسة المشاكل من جميع جوانبها والتفكير في بدائل متعددة، والاستماع إلي وجهات النظر المختلفة بموضوعية وبعيدا عن التحيز لحكم مسبق، وكل هذا يستلزم أن يكون المرشح علي دراية كافية بطبيعة المشاكل والقضايا المطروحة، وملما ببعض التجارب المماثلة التي مرت بها بلاده أو الدول الأخري، وقادرا علي استخلاص الدروس المستفادة من تلك التجارب، علي أن يراعي في كل الأحوال أن المشاكل والتحديات لا تتكرر بدرجة تجعلها متشابهة كلية، وإنما يغلب أن تتكرر بعض الملامح والمعالم، فالتاريخ لا يكرر نفسه إلي درجة التطابق التام إلا نادرا، والنادر لا حكم له كما يحدثنا الفقهاء. خامسا: أن تتوافر للمرشح لهذا المنصب القدرة علي مخاطبة الجماهير والحصول علي ثقتها، بالصدق والمكاشفة، بعيدا عن الوعود الزائفة والخداع، لأن القائد هو الذي يصارح مواطنيه بالواقع وما يمكن أن يتوقعوه في المستقبل، دون أن يرسم لهم صورة وردية، أو يغرقهم في متاهات تحول بينهم وبين فهم الصورة الحقيقية بشتي أبعادها، ويشركهم في التفكير في الأسلوب الأمثل لمواجهتها، ويجب أن يتصف المرشح إلي جانب هذا بالجدية والاستعداد الحقيقي لاستقبال مطالب الجماهير وتطلعاتهم بصدر رحب، والبحث بصدق عن المدي الذي يمكن أن يصل إليه في تلبيتها، وعندما نتحدث عن "الجماهير" فإننا نتحدث أساسا عن جموع المواطنين وخاصة القاعدة العريضة منهم وليس فئة قليلة من أصحاب المصالح وجماعات الضغط، التي تسعي إلي الترويج لمصالحها وتحقيق مكاسب فئوية ضيقة. سادسا: أن يكون المرشح معروفا بالصدق والأمانة والنزاهة، والبعد عن الكذب والتضليل والمبالغة المحجوبة. وسوء السلوك واللهو والمجون، والهزل في موضع الجد، لأن الصدق والنزاهة وحسن السمعة هي من الصفات التي يجب أن تتوافر في كل من يتولي منصبا عاما، وخاصة هؤلاء الذين يتولون مناصب رفيعة ذات أهمية خاصة في المجتمع، والذين يحرص المجتمع علي التحقق من توافرها فيمن يتولون مسئولية عامة، ناهيك عن تولي رئاسة الدولة، وما يتطلبه هذا المنصب المرموق من مستوي أخلاقي وقيمي رفيع. سابعا: أن تكون له خبرة معروفة في مجال "ادارة الأزمات"، فلا يمكن أن تكون أي دولة مهما أوتيت من قوة محصنة ضد الأزمات أو الكوارث الطبيعية أو البشرية (كالارهاب والانخراط في نشاط مؤثم علي مستوي واسع)، ولذلك يصبح ضروريا أن يكون رئيس الدولة قادرا علي مواجهة هذه الأزمات بأسلوب حاسم قاطع، بعيدا عن التردد والخوف والجمود، وحتي إذا دعت الضرورة في بعض الأحيان لتكليف مجموعة من الخبراء بعقد اجتماعات متصلة لبحث طبيعة الأزمة والأسلوب أو الأساليب المقترحة لاحتوائها ووقاية المجتمع من أضرارها، فإن القرار الحاسم يظل في النهاية من اطلاقات رئيس الدولة أو ما يطلق عليه فقهاء القانون تعبير his prerogatives. ثامنا: أن يكون للمرشح اهتمام بالسياسة الخارجية، لأن الدولة أي دولة لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن غيرها مهما بلغت من القوة والتقدم، وحتي الدول التي تعتنق مباديء وتتبني سياسات انعزالية متطرفة متعصبة وخارجة عما توافق عليه المجتمع الدولي في حقبة زمنية معينة، لابد أن تكتشف بعد فترة طالت أم قصرت أنها لا تستطيع أن تعيش خارج إطار المجتمع الدولي أو تتقوقع علي نفسها، مهما أقامت حولها من سواتر أو أسوار عالية لأن هذه الأسوار تحول بينها وبين اقامة علاقات صحية، وبذلك تتخلف عن ركب الدول المؤثرة علي الصعيد العالمي. تاسعا: ألا يكون المرشح معروفا أو مستعدا للانصياع لقوي خارجية، لأن صفة "الوطنية" تنتفي عندما يعتنق المواطن أيا كانت صفته ومرتبته مباديء وآراء لم يجمع عليها شعبه، وإنما تروج لها وتدعو إليها قوة كبري أو مجموعة دولية معينة، دون أن يكون أي توافق دولي قد تبلور حولها، ودون أن تكون قد أصبحت جزءا من العرف الدولي، وتزداد أهمية هذا العنصر في العصر الحاضر، الذي تسعي فيه بعض القوي الدولية إلي الانتقاص من "سيادة الدول" كبيرها وصغيرها، وايجاد شرعية جماعية جديدة، تختلط فيها الأمور وتتوه الحدود. عاشرا: ألا يكون المرشح قد اشتهر عنه التردد والتذبذب في المواقف. لأن الأيدي الواثقة التي لا تعرف التردد أو "الارتعاش" هي وحدها التي تكون قادرة علي تعبئة القوي الرسمية والشعبية للعمل الوطني، أما الأيدي المرتعشة المترددة الحائرة بين خيارات متباينة متناقضة، فإنها تكون بالضرورة ضعيفة عاجزة عن الوفاء بمسئوليات القيادة، غير مؤهلة لرئاسة الدولة وسط الأنواء والعواصف الصاخبة التي نشهدها في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العالم. من كل ما تقدم، يكون ضروريا وحتميا علي من يتطلع لتولي قيادة بلاده في هذه الفترة ذات الأهمية البالغة في تاريخ مصر والعالم أن يراجع نفسه قبل الاقدام علي الدخول في ساحة المنافسة، ويتحقق من قدرته علي تحمل هذا العبء الجسيم، ولا تثريب عليه بعد هذا إذا وجد أن متطلبات رئاسة الدولة تفوق قدراته وامكاناته وتجربته، وأنه من الأفضل له ولوطنه أن يترك الساحة لمن هم أجدر منه لتحمل تلك المسئولية، التي هي أمانة ومعاناة أكثر مما هي تكريم وجاه، وليست مسألة شرفية أو رمزية، بل هي اختبار بالغ القسوة لرصيد كل منا وقدرته علي النهوض بعبء لو تعلمون ثقيل. ألا هل بينت؟ اللهم فاشهد ------ صحيفة اخبار اليوم المصرية في 16 -7 -2005