لأن الوقت لا يزال مبكرا للتعرف الى خلفيات ومقاصد الجريمة البشعة التي وقعت في شرم الشيخ، فربما كان مفيداً أن تكون مقاربتنا للموضوع حوله وليست فيه الأمر الذي يدعونا إلى أن ندور في فلك “الترجيحات” وأن تظل وقفتنا عند الملاحظات والمحاذير والتساؤلات، حتى إشعار آخر على الأقل. من الملاحظات ما يلي: * إن التفجيرات وقعت في الساعات الأولى لعطلة 23 يوليو، كما أن تفجيرات طابا وقعت في اليوم التالي مباشرة لاحتفالات ذكرى 6 أكتوبر (2004). وربما كانت المصادفة قد لعبت دورها في ذلك،ولكنني لا أعرف ولا أظن أن وقوع تفجيرات طابا قبل 24 ساعة من محاكمة المتهمين في حادث طابا بمدينة الإسماعيلية، وهي المحاكمة التي كان معروفا أنها ستعقد جلستها الثانية في 24 يوليو. * إن ثمة علامة استفهام حول دور محتمل لمحمد صالح فليفل، المتهم الهارب في تفجيرات طابا الذي لم يتم القبض عليه حتى الآن، رغم مضي حوالي عشرة أشهر على تلك التفجيرات، وهي مدة طويلة نسبيا، ما كان له أن يظل خلالها متخفيا ومطلق السراح إلا إذا كان في حماية بعض القبائل المنتشرة في ربوع سيناء. * إن تعدد نقاط التفتيش والحواجز التي تعترض سبيل الذاهب إلى شرم الشيخ لا يسمح - في الأغلب - بوصول الكميات الكبيرة من المتفجرات التي استخدمت في العملية إلى داخل المدينة، الأمر الذي يعني أن الافتراض الأقوى يميل إلى أن العملية محلية، بمعنى أنها تمت في إطار عناصر من البدو، العارفين بدروب الصحراء، والاقدر على اختراق الاحتياطات الأمنية. وهو ما يرجح أنهم هم الذين تكفلوا بترتيب مراحلها المختلفة وتوفير الإمكانيات اللازمة لها. وما حدث في تفجيرات طابا قرينة دالة على ذلك، حيث كان الفاعلون جميعا من ابناء سيناء باستثناء واحد فقط من أصول فلسطينية، كان مقيما في العريش. * إذا صح ذلك الترجيح، فإنه يضعف الكلام الذي قيل عن صلة لتنظيم القاعدة أو غيره بالعمليات، وبالتالي فإن البيانات التي صدرت في هذا الصدد على شبكة الإنترنت تغدو نوعا من الادعاءات والفرقعة الإعلامية. بالمثل فإن الربط بين الذي جرى في سيناء وبين تفجيرات لندن يصبح احتمالا مستبعدا، خصوصا اذا لاحظنا ان أغلب المتهمين أو المشتبهين في تفجيرات لندن من غير العرب ونسبة كبيرة منهم من ذوي الجذور الباكستانية. * عند المقارنة بين تفجيرات طابا وشرم الشيخ، يلاحظ المرء أن الهدف كان واضحا والرسالة مفهومة بصورة نسبية في الحالة الأولى دون الثانية، مع استنكارنا للأسلوب بطبيعة الحال - فقد كان السياح “الإسرائيليون” هم المستهدفين من تفجيرات طابا والسخط والنفور ازاء كل ما هو “إسرائيلي” بسبب السياسات الوحشية التي تتبعها حكومة تل أبيب والتي لها ما يبررها، سياسيا على الأقل. وإذا كانت الرسالة موجهة إلى الخارج في تلك التفجيرات، فإن رسالة ما جرى في شرم الشيخ ليست كذلك. فالضحايا اغلبهم من المصريين والأجانب قلة فيهم، ويتعذر التسليم بفكرة أن الأجانب كانوا وحدهم المستهدفين، لان الذين أحدثوا التفجيرات في منطقة السوق بعد منتصف الليل لا بد أنهم يعرفون أنه يعج بالمصريين أكثر من الأجانب، ناهيك عن أن المصالح التي ضربت فيه - خصوصا المحال التجارية التي قدرت خسائرها بالملايين - هذه كلها مصرية بالكامل وهو ما يسوغ لنا أن نرجح أن الرسالة موجهة إلى الداخل وليست الى الخارج. ويبقى السؤال: ما مضمون تلك الرسالة؟ إذا جاز لي أن استبق فإنني لا اؤيد الرأي القائل بأن التنمية في مصر هي الهدف، وأجد فيه تبسيطا وتشتيتا، لأن الذي يريد أن يضرب التنمية بوسعه أن يحقق مراده في أماكن أخرى كثيرة في البلد وليس مضطرا الى المغامرة بالدخول في منطقة حساسة مثل شرم الشيخ، يفترض أنها تحت حراسة مشددة لأسباب مفهومة _ ولذلك ارجح أن الرسالة خاصة، خارجة من سيناء وموجهة إلى الحكومة المصرية بالدرجة الأولى، ولست أشك في أن التحقيقات ستكشف عن الحقيقة في الموضوع، وستبين مدى صحة هذا الاستنتاج. أحذر من تكرار ما حدث في أعقاب تفجيرات “طابا” التي وقعت في السابع من شهر أكتوبر خلال العام الماضي، حيث اتسمت اصداء الحدث آنذاك بالتسرع والذعر والعشوائية. وكان التسرع أوضح في المعالجات الاعلامية بوجه أخص، إذ رغم أن كل ذي عينين كان بوسعه أن يلاحظ أن “الإسرائيليين” هم المستهدفون منها، إلا أن الخطاب الإعلامي والتعبوي المتسرع صعد من المسألة، حتى اعتبرها محاولة لتخريب الاقتصاد المصري وضربة للقضاء على السياحة وطعنة موجهة الى رزق وقلب كل مصري. بعض ذلك حدث بالفعل بدرجة أو أخرى، إلا أن هذه كلها كانت آثارا جانبية، ولم تكن الهدف الرئيسي من التفجيرات. وأزعم في هذا الصدد أن التركيز على تلك الآثار الجانبية كان خطأ سياسيا، فضلا عن الخطأ المهني بطبيعة الحال. وقد حسم الأمر لاحقا بيان وزارة الداخلية الذي نص على أن تفجير فندق طابا ومخيمي منطقة الشيطاني بنويبع تم “كرد فعل على تداعي الأوضاع بالأراضي المحتلة، ولتوجيه عمل يستهدف “الإسرائيليين” المقيمين بالفندق والمخيمين”. الذعر كان واضحا في الاحتياطات المبالغ فيها والتي اتخذت لتأمين كل الفنادق في مصر، حتى أخليت الأرصفة المحيطة بكل فندق، وأصبح الدخول الى مرآب السيارات أمراً عسيراً يقتضي من كل واحد ترك رخصتي القيادة والسيارة عند المدخل، ثم تحصيلهما في وقت لاحق عند الخروج. ولا يخلو الأمر من حالات يتم فيها تفقد بعض الرخص التي تتكدس لدى الموظف المختص.ورغم أن بيان الداخلية ذكر أن “الإسرائيليين” كانوا هدفا لعملية طابا، إلا أن الاحتياطات اتخذت في الفنادق حتى تلك التي لا يرتادها “الإسرائيليون”. ولأن، اغلب الفنادق الكبرى في قلب القاهرة، فلك أن تتصور حجم المعاناة التي أصبح يستشعرها القادم الى أي فندق كبير سواء أودع سيارته في مرآب الفندق، أم حاول أن يجد لها مكانا خارجه. وهي معاناة تقترن بالغيظ لأن الزائر يجد أمامه مساحات شاسعة خالية حول الفندق، ولكن التعليمات تحظر الوقوف فيها. الخلاصة أن تلك الإجراءات أشعرت الناس بأن الفندق صار ثكنة عسكرية أحيطت برجال الشرطة وسيارات الأمن، ممنوع منها “الاقتراب والتصوير”. وتلك كلها احتياطات مبالغ فيها أشاعت جوا من التوتر والترقب لا مبرر له. صبيحة يوم السبت 23/7 قال وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي عقب وصوله الى مسرح الجريمة: إن ثمة علاقة بين تفجيرات طابا وما جرى في شرم الشيخ وهو تصريح يحتمل اكثر من قراءة. فقد يوحي باحتمال ضلوع المتهم الهارب محمد فليفل في العملية الاخيرة، وقد يوحي بأن “الإسرائيليين” استهدفوا في المرة الأولى، وأن الأجانب الغربيين استهدفوا في المرة الثانية (بدليل اقتحام سيارة المتفجرات لفندق غزالة). كما قد يوحي بأن ثمة تنظيما له خلاياه النائمة في سيناء، وقد بدأ بتفجير فندق طابا ثم استكان لبعض الوقت حتى وجه ضربته في شرم الشيخ. وهناك من ذهب في تأويله للكلام الى القول بأنه يتسع لاحتمال أن يكون اهالي المعتقلين على ذمة قضية طابا، الذين تظاهروا من قبل واعتصموا في العريش احتجاجا على احتجاز أبنائهم، طرفا في عملية شرم الشيخ بصورة أو بأخرى. وربما اراد بعضهم أن يثأر لما أصاب أولادهم المحتجزين. في كل الأحوال فان هوية الفاعلين ستظل مفتاحا مهما يفض بعضا من مغاليق القضية، وهو أمر من السهل الاستدلال عليه، على الأقل عبر تتبع المعلومات الخاصة بالسيارات التي استخدمت في التفجير، إضافة الى فرز الحامض النووي لمن قتل في العملية من الفاعلين. ويظل من المهم للغاية أن نتعرف الى دوافعهم وأهدافهم مما اقدموا عليه، وهل هم “تنظيم” موجود في سيناء، وهل هذا التنظيم محلي أم له علاقات بالخارج، أم انهم أفراد ومجموعات لها أسبابها في الغضب والثأر. هذه الأسئلة الأخيرة المتعلقة بالوضع التنظيمي للفاعلين لم تتضح لنا، على الأقل فيما يختص بتفجيرات طابا، التي وقعت قبل عشرة اشهر، الأمر الذي قد لا يجعلنا نتفاءل كثيرا بإمكانية العثور على إجابة واضحة لها بالنسبة لمدبرى تفجيرات شرم الشيخ. ما حدث عمل ارهابي لا ريب فيه واستهجانه وفضح بشاعته أمران لا يجادل فيهما احد، ولكن الاكتفاء بذلك يحصرنا في دائرة التعامل مع السؤال: “ماذا جرى”، ولا يتيح لنا فرصة مد البصر الى ما هو أبعد من حدود تلك الدائرة. وهو ما حدث في التغطية الاعلامية للحدث، على الاقل حتى كتابة هذه السطور، أي خلال الايام الثلاثة التي أعقبت العملية. وإذ يتأمل المرء المشهد من هذه الزاوية فإنه يلحظ أنه بصدد قصيدة هجاء طويلة، جرى استعراضها طول الوقت على شاشات التليفزيون وفي تعليقات الصحف القومية (اغلب الصحف المستقلة والمعارضة ركزت على الثغرات الأمنية في المشهد). وكان ملاحظا أن البعض استطرد في الهجاء فصبه على تنظيم “القاعدة” وقاطعا بمسؤوليته عما جرى. وهذا وذاك مما يحتاج الى مراجعة نتمسك فيها بموقف الهجاء، ونتجنب الاحالة الى الخارج ورفع شعار “الحق على الطليان”. أختم بسؤال يلح عليّ طول الوقت، شجعني على طرحه كين ليفنجستون عمدة لندن الشجاع، الذي قال يوم السبت الماضي تعليقا على تفجيرات لندن: إن سياسة الحكومة البريطانية لها دورها في اذكاء العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد. سؤالي هو: إلى أي مدى أسهمت السياسات المخيمة على المنطقة في إطلاق الإرهاب وتدويله؟ ------ صحيفة الاهرام المصرية في 26 -7 -2005