عاشت المنطقة في الفترة الأخيرة عدة مشاهد مثيرة ومتناقضة لعملية انتقال السلطة في أكثر من بلد، بعضها تدخل فيها القدر بصورة مباشرة، وبعضها الآخر حدث بإرادة بشرية. من الانتقال الديمقراطي للسلطة في إيران شرقاً، إلى الانتقال القسري عبر الانقلاب العسكري في موريتانيا غربا، وبينهما تراوحت عملية انتقال السلطة في السعودية، وفي الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأخيرا الإعداد لمسيرة إصلاح ديمقراطي طويلة في مصر، عبر انتخابات الرئيس لأول مرة بالانتخاب المباشر وليس كما كان بالاستفتاء العام. بين هذا وذاك نبدأ بالقول إن هناك فروقا واضحة في التعريف والمفهوم والوسيلة ومن ثم المضمون، بين انتقال السلطة وتداول السلطة، في الأولى قد يتم الانتقال بوسائل عدة، بينها الإرادي الحر وبينها القسري أي بالانقلاب، أو بالموت الذي يتشارك معهما بإرادة فوق إرادة البشر، أما في الثانية فيتم التداول عبر الانتخابات الحرة المفتوحة أمام المواطنين. ثم نضيف أنه لسنوات طويلة كان المواطنون في هذه المنطقة من العالم، قد نسوا حكايات الانقلابات العسكرية، التي تتالت عبر عقود مضت، فغيرت وبدلت ونقلت السلطة من يد إلى يد، ومن حاكم إلى آخر، في بلاد مثل العراق (أول من عرف الانقلاب العسكري في أربعينات القرن الماضي)، وفي سوريا ومصر وليبيا والسودان والجزائر والصومال واليمن، فضلا عن محاولات انقلابات أخرى في بلاد أخرى. لكن موريتانيا فاجأتنا في الأسبوع الماضي بانقلابين من الجيش وقوى الأمن، ينقلبون على انقلابي قديم هو الرئيس المخلوع معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، الذي سبق أن استولى على السلطة بالانقلاب العسكري أيضا قبل أكثر من عشرين عاما، وحكم خلالها بمعظم القادة الحاليين الذين انقلبوا عليه، فانتقلت إليهم السلطة بالاستيلاء القسري. وفي الحالتين، الانقلاب القديم وذلك الجديد، ظلت إرادة الشعب غائبة مغيبة، فلا الانقلابيون القدامى استفتوه، ولا الانقلابيون الجدد سألوه، لكن آلية القوة المسلحة غلبت فحكمت وتحكمت، وعلى المواطن العادي أن يوفق أوضاعه طبقا لما هو جديد وإلا فالسيوف على الرقاب! وربما على النقيض من ذلك، جرت انتخابات عامة في إيران على منصب رئيس الدولة المحددة مدته بفترتين فقط، بعد أن انتهت رئاسة السيد محمد خاتمي، وتقدم للترشيح أكثر من ألف إيراني، لكن المنافسة القاسية جرت بين اثنين من رموز النظام الإسلامي الحاكم في إيران، منذ ثورة الإمام الخميني عام 1979 ضد الشاه، ونعني بين رافسنجاني الرئيس الأسبق وبين أحمدي نجاد عمدة طهران ممثل (تيار رجال المحافظين). عبر جولتين من السباق العلني نجح نجاد وتولى الرئاسة، فقدمت إيران نموذجا جديدا في الانتقال السلمي للسلطة، يلامس وربما يماثل تداول السلطة بالمفهوم والشكل الديمقراطي المتعارف عليه، ورغم ملاحظات بل وانتقادات الغرب، خصوصا أمريكا، لعملية تداول السلطة هذه، لأنها تمت بين رمزين من رموز النظام الأعلى الحاكم، أي في داخل مؤسسة النظام وبإشرافه، إلا أن الملاحظ أن انتخابات الرئاسة جرت في علانية ومنافسة مفتوحة وعبر التصويت الشعبي العام، وتحت عيون العالم بأسره، ورضي الطرفان المتنافسان بالنتيجة النهائية التي لم تطرق باب التسعات الثلاث! *** أما في السودان، فقد اهتزت الأوضاع بقوة إلى الحد الذي عرّض أمن البلاد كلها للتدهور، إثر حادث سقوط الطائرة الغامض الذي أودى بحياة جون قرنق (قائد الحرب والسلام)، ذلك المتمرد أو الثائر الجنوبي الذي خرج من الغابة رافعا سلاحه ضد الحكومة السودانية قبل أكثر من عشرين عاما، وإلى الغابة عاد جسدا محترقا، قبل أن يكمل شهرا في منصبه الجديد، نائبا لرئيس الجمهورية، في ظل اتفاق السلام الجديد. ولقد حبس السودانيون، بل معظم العالم المهتم أنفاسهم، تطيرا من الحدث، وتوقعا لنتائجه وتداعياته، فمن ذا الذي يملأ مكان ومكانة هذا الرجل، الذي تحوّل في نظر كثيرين إلى أسطورة، وما هو مصير اتفاق السلام والمصالحة، الذي أنهى واحدا من أكثر الصراعات في العالم دموية وعنفا، ومن هو الذي يضمن استقرار واستمرار هذا الاتفاق، بعد أن غاب عن المسرح ضامنه الرئيس مع الحكومة السودانية؟ وفي السعودية تلك البلاد التي تحتل في القلوب أهمية دينية مقدسة، وتحتل أهمية نفطية هائلة جرى الانتقال السلمي والهادئ للسلطة إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد، بعد وفاة أخيه غير الشقيق الملك فهد، وفق قاعدة تقليدية تولى بمقتضاها خمسة ملوك الحكم من قبل، وتقول إن العرش يذهب تلقائيا لأكبر أبناء عبد العزيز -الملك المؤسس- وأكثرهم صلاحية. ويتم الاختيار عادة أولا داخل الأسرة ومجلسها الأعلى، ثم يأخذ الملك الجديد “البيعة” من رموز طوائف الشعب وفي مقدمتهم رجال الدين، في شكل علني، على عكس ما يجري في مجلس العائلة الذي يجتمع منفردا ثم يعلن قراره على الناس الذين تعودوا القبول به. *** غير أن ما يجري في مصر هذه الأيام يختلف عن ذلك، بل هو يختلف عما جرى بمصر على مدى العقود الخمسة الأخيرة، أي منذ إسقاط النظام الملكي الوراثي، بثورة يوليو/ تموز ،1952 وتولي رؤساء الجمهورية الجديدة على التوالي محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك للحكم 52- ،2005 بقانون الأمر الواقع في حالة محمد نجيب، ثم بالاستفتاء العام في حالة الباقين، ودون اللجوء للانتخاب الحر المباشر للرئيس، رغم أن البند السادس من بنود إعلان الثورة وتعهدها هو “إقامة حياة ديمقراطية سليمة”، كان يقتضي أول ما يقتضي العودة للنظام الانتخابي الحر المباشر. وقد جاء تعديل المادة رقم 76 من الدستور مؤخرا ليفتح الباب لتغيير وسيلة تولي الحكم من الانتقال الميكانيكي للسلطة، إلى تباشير تداول السلطة، بإجراء انتخابات رئاسية مفتوحة ومباشرة، وهو الذي يجري الآن في تجربته الأولى التي لن تكون بالطبع كاملة لأسباب عديدة، وها نحن نرى أن 30 مرشحا من 16 حزبا سياسيا قد تقدموا للترشيح، أملا في إقرار قاعدة ديمقراطية جديدة، حتما ستتبلور فيما بعد، وهي قاعدة العودة إلى صوت المواطن لاكتساب شرعية الحكم وثقته ومصداقيته بالتداول الحر للسلطة. وأظن أن التحدي الرئيسي المطروح الآن في مجتمع خصب وحيوي مثل المجتمع المصري، يكمن في اقتحام المجتمع المدني والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية الحية، للميدان، ليس فقط لإنجاح التحول نحو تداول السلطة بالانتخاب المباشر، بل بإقرار دولة القانون والمؤسسات الدستورية المستقرة وفق قواعد راسخة، تقوم على مبادئ ديمقراطية بديهية متداولة ومعروفة. ونعني بذلك إيمانا راسخا بأن الوطن للجميع، وأن المواطنة هي الأساس، وأن القانون العادل هو السيد، وأن الدستور السليم “الجديد والعصري” هو مصدر الشرعية، وبالتالي فإن المواطن العادي هو جوهر العمل السياسي الحر، سواء عبر الأحزاب السياسية المتكافئة، أو عبر منظمات المجتمع المدني النشيطة، المواطن القادر والمتمكن من التعبير عن رأيه والإفصاح عن اختياره، بالتصويت الحر لمن يريد انتخابه، وكذلك بممارسة حقه في النقد والمساءلة والرقابة من خلال برلمان ينتخبه بحرية ونزاهة أيضا، ثم من خلال صحافة ووسائل إعلام حرة الإرادة مستقلة الكلمة، لا يغريها أو يرهبها الفساد والمفسدون، ولا تقهرها السلطات التنفيذية بالقوانين المتعسفة والعقوبات المشددة وسياط الحبس والسجن، التي تحبس حرية الكلمة قبل أن تسجن المتكلمين.. ترى هل نفعل، لنقدم نموذجا جديدا للحكم الرشيد، وللتداول الديمقراطي للسلطة؟ *** ** آخر الكلام: يقول عبد الرحمن الشرقاوي: الكلمة فرقان بين نبي وبغي. بالكلمة تنكشف الغمة. الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة. ---- صحيفة الخليج الاماراتية في 10 -8 -2005