تقف مصر الآن علي مفترق طرق، لكنها ستسير في كل الأحوال إلي الأمام، إذ ليس من المرجح أن تنتهي فترة الغليان المستتر منه والظاهر، التي تعيشها الآن، إلي لا شيء. فلا تاريخ مصر يشي بأن ينتهي طلاب الإصلاح إلي جني الفراغ، ولا المعطيات الراهنة توحي بأن أحدا بوسعه أن يعيد إلي الوراء العجلة التي دارت. المتشائمون بطبعهم، وهم قلة، والمنتفعون من حالة الركود السياسي، يحاولون أن يمنعوا ميلاد المستقبل علي أكف الحاضر من دون عنت ولا عناء، لكن قوة الضغط، في الداخل والخارج، تقول بلا مواربة، إن مصر الغد، لن تكون أبدا مصر اليوم، بغض النظر عن مقدار ما تحصله الحركة الوطنية من إصلاح سياسي، أو قيمة ما تهبه السلطة من أجل تفويت الانحدار إلي الانفجار أو الفوضي. فإذا بدأنا بما تهبه السلطة نجد أنه قد ساهم دوما في تعزيز الاتجاه إلي الديمقراطية، حتي ولو بخطوات وئيدة. فبعد ربع قرن من تجميد الليبرالية المصرية، بقيام ثورة يوليو، اتخذ الرئيس الراحل أنور السادات عام 1976 قرارا بإنشاء منابر سياسية، واحد لليمين وآخر لليسار وثالث للوسط، ليدشن نواة قيام أحزاب سياسية، لم تلبث أن عززت دورها في عهد الرئيس مبارك، بامتلاك صحافة، تتمتع بهامش كبير من حرية التعبير، ومارست حق نقد تجاوزات السلطة في المجالات القانونية والسياسية والمالية، وفضح الفساد البيروقراطي والاجتماعي، والمطالبة بإلغاء كافة القوانين السالبة للحرية، بمختلف ألوانها. وجاءت الخطوة الثانية بعد ذلك بنحو تسعة وعشرين عاما، تحديدا في فبراير من العام الجاري، حين أصدر مبارك قرارا بفتح الباب أمام انتخابات رئاسية، بدلا من نظام الاستفتاء علي شخص واحد، الذي كان معمولا به منذ ثورة يوليو. ورغم أن هذه الخطوة قد تم تفريغها من جزء لا يستهان به من مضمونها بفعل القوانين التي حددت شروط الترشيح والانتخاب ومباشرة الحقوق السياسية، فإنها تشكل تحركا إلي الأمام، بتعزيزها النظام الجمهوري، في وقت كان مستهدفا بفعل الاتجاه إلي التوريث المباشر والسافر للحكم، وفتحها الباب أمام المدنيين لتولي الرئاسة، وتحريكها المياه الراكدة في الحياة السياسية المصرية، بدءا من الشروع في تغيير بعض قيم وتوجهات الثقافة السياسية المصرية لتلائم وضعا يؤمن بالتعددية والتنافس الحر، وانتهاء بإخراج أحزاب المعارضة من نفق تبعية السلطة إلي البحث عن شخصية مستقلة، ورفض لعب دور "الديكور" الذي يجّمل حياة سياسية متراوحة بين الشمولية واحتكار الأقلية للحكم. وتلوح الآن في الأفق بوادر مرحلة ثالثة، لو وفّي الرئيس مبارك بوعوده التي أطلقها حين أعلن ترشيح نفسه لفترة رئاسة خامسة، من إدخال إصلاحات سياسية ودستورية، وإلغاء قانون الطوارئ الجاثم علي عقول المصريين وقلوبهم وسلوكهم منذ أن حكم مبارك مصر عام 1981، والذي طبق لفترات متقطعة في عهد سلفيه عبد الناصر والسادات. لكن هذه المرحلة السياسية محفوفة بالشكوك في أن ما تفعله السلطة لا يعدو أن يكون محاولات للالتفاف علي الإصلاح السياسي، ما قد يفضي في خاتمة المطاف إلي تجميل القبيح، أو تلميع القشرة الخارجية للنظام ، بما يوهم الداخل والخارج معا، بأن هناك تغيرا نوعيا ما يجري. ويتم هذا الالتفاف تحت لافتة عريضة مفادها أن الديمقراطية ليست شكلا واحدا، أو مسارا ثابتا، بل إنها تتخذ أنماطها حسب ظروف كل مجتمع، وأن من حق كل جماعة أن تبدع النظام السياسي المتلائم مع أحوالها الحياتية. ويتمادي الملتفون في تقديم الذرائع إلي درجة الحديث عن أن الديمقراطية الغربية نفسها لا تخلو من مشاكل أو نقائص، وأن بعض المفكرين الغربيين أنفسهم يعترفون بأن الديمقراطية المطبقة حاليا، ليست نظاما كاملا أو مثاليا، وليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، بل إن المطالبة بها لا تخلو من غرض أميركي خبيث، مفاده تهيئة دول المنطقة للاندماج في مشروع أمريكي كبير، وزيادة درجة قابليتها للاستعمار. ہہہ أما بالنسبة لأداء الحركة الوطنية المصرية، فإن تجربة الماضي المريرة أصقلتها، وأكسبتها قدرة علي الدخول في تضاغط إيجابي ضد من بيدهم الأمر ومن يناصرونهم، ما يؤشر إلي أن أداء هذه الحركة في المستقبل المنظور، سيختلف كثيرا عما كانت تفعله من قبل، سواء علي مستوي الأفكار أو التكتيكات. فلم يكن من المتصور قبل سنوات قليلة أن يتصرف الشيوعيون والإسلاميون والليبراليون علي أساس أن هناك قواسم مشتركة تجمعهم، وأن الوقوف في وجه السلطة يتطلب تنسيقا بينهم، ودفاعا متبادلا ضد ما يتعرض له كل منهم من أعمال قسرية علي يد هذه السلطة. وقد تترجم هذا الفهم وذلك الاتجاه في الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" التي تجمع أناسا بينهم قطيعة أيديولوجية، وكان كل منهم يقف في خندق ضد الآخر من قبل، وكذلك في "التحالف من أجل الإصلاح والتغيير" الذي أطلقه الأخوان المسلمين، ويضم فصائل عدة من المعارضة، بما فيها من يختلفون فكريا مع الإخوان. كما تترجم علي مستوي أوسع في التنسيق بين قوي المعارضة الرسمية، وفي مقدمتها أحزاب الوفد "يميني ليبرالي" والتجمع الوطني الوحدوي التقدمي "يساري" والعربي الناصري "يساري قومي"، لمقاطعة الاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور ، وكذلك في اتجاه هذه الأحزاب حاليا إلي مقاطعة الانتخابات الرئاسية ذاتها. ومن المنتظر أن تستمر هذه الألوان من التكتلات السياسية في المستقبل المنظور، وتعزز اتجاه المعارضة إلي الاستقلال في الرؤي والتحرك، والسعي الدائب علي تطبيق تلك الرؤي المختلفة في أرض الواقع، وحث الجماهير علي تبنيها. وقد أظهرت الأزمتان الأخيرتان اللتان تعرضت لهما مصر، وهما اغتيال رئيس بعثتها الدبلوماسية في العراق إيهاب الشريف وتفجيرات شرم الشيخ، أن المعارضة لا ترضي بأن تلحق نفسها بالسلطة، مثلما كان متبعا في الماضي، إذ كانت تتصرف وقتها علي أساس أن البلاد مستهدفة، ما يتطلب الالتفاف حول الحكومة. ففي الأزمتين الأخيرتين، ربطت المعارضة بين سياسات داخلية وخارجية غير رشيدة وبين الحادثين، وطرحت، من خلال صحفها وتصريحات بعض رموزها، سياسات بديلة، رأت أنها كفيلة بتجنيب مصر خطر الإرهاب. وإذا كانت الحكومة قد عوقت الإصلاح السياسي والقانوني في الماضي بدعوي أنه لا صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب، فإنها هذه المرة لن تكون قادرة علي الذهاب إلي أقصي حد ممكن في استعمال تلك الذريعة، لتعطيل الديمقراطية أو كسب تعاطف الشعب، ولفت الانتباه عن مشكلات مزمنة تعاني منها مصر. فالمعارضة تري أن الإصلاح أو السياسات الناجعة هما الكفيلان بتقوية الجبهة الداخلية في وجه الإرهابيين، وأن الاستبداد هو أقصر الطرق لتفجر العنف السياسي والاجتماعي، بشتي درجاته. ہہہ وهذا يعني أنه حتي في أصعب الأحوال وأحلك الظروف فإن النخبة المصرية ستواصل اشتباكها حول قضية الإصلاح، وأن رحلة التضاغط ضد السلطة ستستمر في الفترة المقبلة، من أجل تحقيق المزيد من المكتسبات الديمقراطية، خاصة أن مجرد تعديل مادة من الدستور، لا يكفي أبدا في نظر المعارضة والمستقلين لتحقيق الإصلاح السياسي المنشود، الذي يتعدي مسألة انتخاب رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح، لينادي بتحديد مدة الرئاسة، وتخلي الرئيس عن انتمائه الحزبي، طيلة فترة توليه منصبه، وتقليص حجم السلطات المطلقة الممنوحة له بمقتضي الدستور، بل تغيير الدستور نفسه، وليس تعديل مادة أو مادتين فيه. ويتطلب الإصلاح كذلك توفير ضمانات لانتخابات تشريعية حرة نزيهة، عبر تشكيل لجنة قضائية دائمة ومستقلة تنفرد بإدارة الانتخابات، والاستفتاءات العامة، وإلغاء جداول القيد الانتخابي الحالية، وتكوين جداول جديدة تتطابق مع السجل المدني، لحين الانتهاء من تعميم الرقم القومي، وإلغاء حالة الطوارئ إلغاء باتا، من دون استبداله بقانون آخر يحمل الاستثناءات نفسها تحت مسمي قانون مكافحة الإرهاب أو غيره، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، واحترام حقوق الإنسان، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية تحت رقابة القضاء الطبيعي وحده، شريطة أن يكون الحزب مفتوحا أمام جميع المصريين بلا تمييز بسبب الجنس أو اللون أو الدين، وأن يلتزم بقواعد العمل الديمقراطي في إطار دستور مدني، مع رفع القيود علي النشاط الجماهيري وحق الإضراب والاعتصام. ويتطب هذا بالتبعية عدم السماح للحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) بالسيطرة علي الأجهزة الإعلامية والأمنية والبيروقراطية للدولة، وتسخيرها لصالحه، وكفالة استقلال النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية، وإطلاق حرية إصدار الصحف وملكية وسائل الإعلام للمصريين، وتحرير أجهزة الإعلام والصحافة القومية من سيطرة السلطة التنفيذية، وإتاحة فرصة متكافئة للأحزاب والقوي السياسية، وكافة الاتجاهات والتيارات الفكرية الديمقراطية في طرح آرائها وأفكارها في كل أجهزة الإعلام المملوكة للشعب، لحين تعديل قانون الإذاعة والتلفزيون، وتحقيق استقلالهما عن السلطة التنفيذية. ومن الصعب التكهن بالمدة التي يستهلكها الإصلاحيون في رحلة إزاحتهم لكل هذه القيود السياسية والقانونية والإعلامية التي تقف حائلا دون أن تصبح مصر دولة ديمقراطية، لكن المؤكد أن هؤلاء لن يتوقفوا عن المضي قدما في طريقهم، الأمر الذي يعني تواصل المظاهرات السلمية، واستمرار مختلف الجماعات المهنية، التي أعلنت في الشهور القليلة الماضية حركات من أجل التغيير، في طلب الإصلاح، وقد تلجأ بعض هذه الجماعات إلي أشكال احتجاجية أخري مثل العصيان المدني والإضراب، وقد تنزلق إلي ممارسة عنف مضاد، إذا حاولت الحكومة أن تزور الانتخابات التشريعية والمحلية المقبلة، وقد تخرج الكتلة الجماهيرية الكبيرة، المكتفية بالفرجة علي صراعات النخب، عن صمتها، وتنزل إلي الشارع، فتتغير المعادلة السياسية رأسا علي عقب. كل ما تقدم يعني بجلاء أن مصر معرضة لأن تعيش فترة من عدم الاستقرار في السنوات القليلة المقبلة، لن يحسمها سوي خطوات إصلاحية كبيرة تقطعها الحكومة طواعية، أو أن يظفر المصريون بنظام سياسي آخر، محققين بذلك ما يقوله بعض دعاة التغيير من أن إصلاح النظام الحالي تعني إزاحته عن الحكم. --------------------------------------- جريدة القدس العربي