أربعون سنة من التيه دلفت فيها الكنيسة الأرثوذكسية في غيابات السياسة ومنازعة الحكم أهله، بالمخالفة لمعتقدها الراسخ وأدبياتها عبر العصور بترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر، والركون عن تغذية الجوانب الروحية التصالحية المسالمة التي جاء بها المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبولوج الكنيسة دهاليز السياسة، أعادت الكنيسة التزاوج مرة أخرى بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، باعتبار البابا هو الزعيم السياسي والروحي لأبناء طائفته، وسعت إلى الاستقلال داخل النظام القانوني للدولة المصرية باستحداث نظام موازٍ يحاكي النظام الإداري للدولة، ويقوم على خدمة ما اصطلحوا على تسميته الشعب القبطي أو شعب الكنيسة، وهو المصطلح الذي كان يجري على لسان رأس الكنيسة السابق البابا شنودة الثالث، وهو ما يعد نوعًا من الفرز والتمييز المتعمد بين لحمة الوطن وسداه، أو بين عنصري الأمة المسلمين والمسحيين، الذين عاشوا لقرون في شراكة وطنية أفراحًا وأتراحًا. وفي المقابل اعتبر المسيحيون الكنيسة ملاذهم الآمن الذي يوفر لهم الحماية والرعاية في مواجهة الدولة والمجتمع المسلم، وبهذا أصبحت الكنيسة هي الكيان العام للجماعة القبطية، ولم يعد دورها ينحصر في الجوانب الروحية أو العمل الاجتماعي لمساعدة الفقراء، بل امتد هذا الدور لتظهر بمظهر الممثل الشرعي للمسيحيين لدى الدولة؛ لطرح مشكلاتهم، والدفاع عن مطالبهم، مع السعي الحثيث إلى بث وتكريس فكرة الاضطهاد الرسمي والمجتمعي لأبناء الشعب القبطي! هذا الدور السياسي الذي لعبته الكنيسة وراق لها (وجنت منه كثير من الفوائد) ولقى استحسانًا من جانب النظام السابق؛ خلق أرضية مشتركة بين النظام والكنيسة وراهن كل منهما على الآخر؛ لتحقيق ما يصبو إليه من أهداف ذاتية، فجاءت ثورة جموع الشعب مسلميه ومسحييه على النظام في 25 يناير (والتي ترددت حيالها الكنيسة اتساقًا مع مواقفها المؤيدة للنظام)؛ لتضع حدًا لتلك الأوضاع وغيرها من مظاهر الاستبداد والظلم العام ، والتأسيس لدولة المشروعية والمواطنة. وبصرف النظر عن الأيدلوجية التي كانت الكنيسة تعتنقها ونظرتها للآخر، والتي جعلت أهدافها تتقاطع أحيانًا مع أهداف الجماعة الوطنية، وبجلوس راع جديد للكنيسة هو البابا تواضروس الثاني؛ يحدونا الأمل أن تؤسس قيادته للكنيسة لمرحلة مختلفة، تنزع التوتر وتحد من الاستقطاب، وتضطلع فيها الكنيسة بدور وطني بارز، يحقق لأبنائها الاندماج، والتفاعل، والمشاركة الحقيقية في الحياة العامة، من منظور وطني، برع الشعب المصري على مر العصور، في رسم أبعاده في مواجهة الطامعين والمتربصين بتراب وطنهم، وأن يبسط يديه بالسلم والمحبة إلى كافة أبناء الوطن بخطوات عملية ملموسة، تزيل الشك وترأب الصدع لبناء مصرنا القوية، ومن تلك الخطوات على سبيل المثال لا الحصر: 1 تعزيز فكرة خضوع الكنيسة كمؤسسة وطنية بكل مكوناتها للقانون، كغيرها من مؤسسات الدولة، كالأزهر، والحكومة، والقضاء، وغيرها، وما يستتبعه من استحداث آلية قانونية لوضع ميزانيتيها تحت رقابة الدولة. 2 تفعيل مبدأ الاحتكام لما يعتقدون دينيًّا في مشكلاتهم الاجتماعية (الزواج الطلاق)، ووضع الحلول الناجعة لها لعدم تصديرها إلى المجتمع. 3 مجابهة أصحاب الأفكار الإقصائية العنصرية التي تسير عكس حركة التاريخ باعتبار المسلمين ضيوفًا على أرض مصر طالت إقامتهم، وما يتبعه من استحلال الأراضي الشاسعة. 4 تذويب الأفكار التي لقّنت بها الأجيال السابقة من وجود اضطهاد ممنهج ضد الأقباط، لا يدعمه الواقع، حيث يملكون مفاصل الاقتصاد المصري في أغلب المجالات الاقتصادية، والخدمية كالبنوك، والتأمين، والسياحة، وتجارة الذهب، والاتصالات، والسيارات، والصناعات الدوائية، والغذائية، والمقاولات، ومواد البناء، ووسائل النقل، وغيرها. تبقى كلمة إن لغة العقل يجب أن تسود، وإن سنة الله في خلقه اختلافهم، لقوله – تعالى -: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود ( 118، وإن مصرنا تستحق أن نبنيها بدمائنا، ونجعل لها من سويداء القلب موضعًا، وطن موحد تقلنا أرضه، وتظلنا سماؤه، وننعم جميعًا بخيراته. والله الموفق ،،،