هل ضيع مسئولو لجنة الانتخابات فرصة لا تتكرر إلا نادراً لصناعة التاريخ والدخول إلى أنصع سجلاته؟ أعتقد أن الإجابة هى "نعم"، فقد كان بوسع اللجنة أن تعيد صياغة تعديلات المادة 76 من الدستور على نحو صحيح، كان بوسعها أن تخلص التعديل من "الضوابط" التى فرغته من مضمونه، وأن تعيد الأمور إلى نصابها الدستورى الصحيح، ذلك أن الدستور لا يتجلى، فحسب، فى نصوصه التى يمكن تعديلها وتغييرها بين آن وآخر، لكنه يتجلى فى المقام الأول فى روحه العامة، مبادئه الأساسية ومقاصده التى يتوخاها. وكان بمقدور أعضاء اللجنة أن يقبلوا أوراق المرشحين المستقلين لرئاسة الجمهورية، متغاضين عن شرط الحصول على 250 توقيعاً من أعضاء المجالس النيابية، بأن يصدروا قراراً تاريخياً بحق يقولون فيه: "قررنا قبول أوراق المرشحين المستقلين، أسوة بمرشحى الأحزاب، تحقيقاً لمبدأ المساواة بين المواطنين، وهو مبدأ دستورى أساسى، وتمشياً مع الروح العامة التى فرضت تعديل المادة 76 من الدستور، تلك الروح الهادفة إلى توسيع دائرة المشاركة السياسية والانطلاق نحو حياة ديمقراطية سليمة. وإذ نوافق على مشاركة المرشحين الذين استكملوا أوراقهم، بغض النظر عن مستند موافقة 250 عضواً نيابياً المطلوب من المستقلين وحدهم، فإننا نترك البت فى مصير المرشحين جميعاً لهيئة الناخبين، وهى الجهة الوحيدة صاحبة الاختصاص فى اختيار شخص رئيس الجمهورية". ولو أقول لو صدر هذا القرار لكنا الآن بصدد انتخابات رئاسة حقيقية، بدلاً من هذا الفتور الذى نراه فى كل مكان، وكأننا لسنا بصدد اختيار الشخص الذى يشغل أرفع منصب فى البلاد، وأؤكد أنه قرار قانونى تماماً على الرغم من مخالفته لظاهر نصوص القانون، قرار يذكرنا بقضاة مصر العظام الذين كانوا لا يبالون بالقفز فوق نص قانونى وصولاً إلى "القانون العام ومبادئ العدالة" وقارنوا بين القاضى الذى برأ الرئيس "السادات" عندما كان متهماً فى قضية قتل "أمين عثمان"، والقاضى الذى حكم بشنق "زهران" ورفاقه فى "دنشواى"، لتعرفوا كيف كلل الأول نفسه بتاج تغيير التاريخ، وكيف خبأ الآخر ضميره وراء أوراق ونصوص معيبة ليمد فى عمر الاحتلال البريطانى عقوداً طويلة. وأذكر أن "د.على الغتيت" المحامى الكبير ورجل القانون المعروف، سافر إلى باريس للمشاركة فى الدفاع عن "روجيه جارودى" عندما قدمه الصهاينة للمحاكمة بتهمة "العداء للسامية". وعندما قدم "د.على الغتيت" نفسه للمحكمة طالباً المرافعة أراد المحامون اليهود خصوم "جارودى" أن يقطعوا عليه الطريق حتى لا يأخذ الدفاع عن "جارودى" صفة الدولية، وهكذا سأل أحد المحامين اليهود: هل قدم المحامى المصرى ما يفيد حصوله على تصريح بالمرافعة من نقابة المحامين فى فرنسا؟ وكان بوسع القاضى أن يسلك السبيل الآمن ويطالب "د.على الغتيت" بالتصريح الذى لم يكن قد استصدره، وبهذا يمنعه من المرافعة، لكنه اختار أن "يصنع التاريخ" لا أن يسير فى ظل "الوظيفة"، اختار أن ينحاز إلى ما هو أولى بالانحياز إليه من نص جامد، اختار الانحياز إلى روح القانون، وقبل أن يرد "د.على الغتيت" بما يفيد أنه لم يستصدر تصريحاً، فوجئ بالقاضى يقول: "نعرف جميعاً أن مصر مهد الحضارة والقانون، وعندما تطلب مصر الكلمة علينا أن نستمع إليها". وألقى "د.الغتيت" مرافعته التى اختتمت بتصفيق مدوٍ فى القاعة. ..هكذا، فالبشر نوعان، نوع يصنع الأفلاك ويشق الطرق، ونوع يكتفى بالدوران فى الأفلاك والسير فى الطرق، وبديهى أن النوع الأول يعيش حياة كد وتعب، محاطاً بالأعداء، معرضاً للخطر، وهو غالباً يجنى لحياته محصولاً أقل مما بذل فيها من جهد، ذلك المعنى الذى عبر عنه "أمل دنقل" بقوله: "ربما ننفق كل العمر كى نثقب ثغرة.. ليمر النور للأجيال مرة"، لكنه أيضاً هو الذى يقود ركب البشرية، هو الذى يصنع التاريخ ويحظى بالخلود فى أنصع صفحاته. أما النوع الآخر فحياته مريحة، وإنجازه فيها على المستوى الشخصى كبير، لكنه مجرد حصاة فى فلك، أو عابر سبيل يمر، ربما لا نلتفت إليه، وهو بالتأكيد يسقط من الذاكرة سريعا، هذا إذا دخلها أصلاً.