مذ أنشبت الفتن السياسية مخالبها فى جسد الأمة الإسلامية فى وقت مبكر من فجر الإسلام والمسلمون يخلطون خلطًا شائنًا شائهًا بين الاجتهادات واختلاف التفسيرات الدينية لبعض المسائل والفروع (وهذا وارد حدوثه فى كل الأديان)، وبين الصراعات السياسية الطبيعية التى تقع فى كل الجماعات البشرية، وكثيرًا جدًا ما تتحول الخلافات البسيطة إلى صراعات شرسة قد تصبح دموية فى بعض أطوارها ومراحلها. ومحزن جدًا أن يستمر هذا الخلط المشين حتى الآن بعد مرور كل تلك القرون والأزمان والتجارب التى كانت كفيلة بصقل خبرة الناس فى المجتمعات المسلمة، والأكثر حزنًا وإيلامًا أن نرى هذه الآفة الفتاكة حاضرة فى المشهد المصرى بقوة بعد ثورة يناير المباركة (وأعنى بها آفة تحويل كل خلاف فكرى أو سياسى أو دينى إلى صراع شرس قد يصبح دمويًا لا قدر الله)، وقد ظهرت هذه الآفة بوضوح فى أوقات كثيرة خلال الفترة الانتقالية، أبرزها ما يحدث فى المعركة المفتعلة الدائرة الآن بين مختلف القوى السياسية بخصوص الدستور!! فبدلاً من قراءة مسودات الدستور بعمق، وحصر المواد المختلف حولها للوصول إلى أفضل صياغة توافقية لها تحفظ المجتمع وتحقق مصالح الجميع، بدلاً من ذلك هناك من يرفضون بداية هذا الدستور، بل ويرفضون الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداده، ويدعون لإسقاطها، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة لإفشال عملها، وهؤلاء ليسوا على استعداد أبدًا للتوافق مع بقية القوى السياسية والمجتمعية فى أى أمر كان!! وهناك جزء من الإسلاميين (السلفيون تحديدًا أو شطر كبير منهم) يصرون بشدة على مطالبهم الصارمة فى صياغة تفاصيل بعض المواد، كحذف كلمة هنا أو إضافة كلمة هناك، بما يضمن من وجهة نظرهم تحقيق رؤيتهم الشرعية بشكل حاسم، وهناك فئات أخرى من المجتمع متخوفة جدًا من إصرارهم هذا، وتتعامل معه بارتياب بالغ!! وثمة مكونات أخرى من المجتمع المصرى لها مطالبها الخاصة فى الدستور، والجميع يضخم من مخاوفه ويعظم من قلقه؛ وذلك بسبب الحالة التى وصلنا إليها من التشظى وانعدام الثقة فيما بيننا!! وقد سألنى صديق سلفى باستنكار شديد: كيف لك ترفض تطبيق الشريعة الإسلامية؟، فقلت: بالعكس ربما أكون من أكثر الناس وأشدهم تعطشًا وحماسة لتطبيق الشريعة بمفهومها الشامل الكامل كمنهج ربانى للحياة، فتكون سلوكيات المجتمع المسلم وأخلاقه وأفعاله وأقواله ومعاملاته وفق هذا المنهج الإلهى ومنضبطة به، وأتمنى أن يجرى بيننا حوار وطنى جامع لشرح المقصود بتطبيق الشريعة، وإنجاز دستور توافقى يليق بمصر بعد ثورة يناير المباركة، وينص صراحة وبوضوح تام على تطبيق الشريعة وعدم مخالفة أى قوانين لها!! لكننى أرفض وبشدة وإصرار استمرار الضغط بالمليونيات واستعراض القوة فى الشارع من أى طرف كان، فالدستور من الأمور التى لا يصلح معها هذا الأسلوب؛ إذ ينبغى أن يتم التوصل إليه بالتراضى والتوافق بين الجميع، وهذا لن يحدث فى ظل حالة الاستقطاب الحاد والتشرذم والانقسام التى يعيشها المجتمع وسط أجواء عاصفة من الاستفزاز وفقدان الثقة والصراعات الشرسة بين مختلف القوى السياسية! وعلينا أن ننظر فى مآلات الأمور، ونحرص على تحقيق المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية ومن بينها الحفاظ على وحدة الوطن وسلامته وتماسك نسيجه الاجتماعى؛ فهذا من هدى الإسلام؛ إذ يجب أن يحرص أى شعب على وحدته كى تَقْوَى شوكتُه ويَرْهَب الأعداء جانبه، ولكن مع الأسف الشديد فإن بعض الناس لديهم اندفاع وتهور غريب ولو أدى ذلك للفرقة والنزاع، أو حتى لاندلاع الحروب الأهلية الطاحنة لا قدر الله!! ولنا فى تجارب الآخرين العظة والعبرة، ففى الثمانينيات مثلاً أصر (جعفر نميرى) على تطبيق الشريعة الإسلامية فى السودان دون تهيئة الشعب لذلك؛ مما أدى لنشوب حرب أهلية استمرت نحو 20 عامًا انتهت بانقسام السودان لدولتين، ولا تزال المخاطر تتهدده من كل جانب، والتجارب المأساوية ونتائجها الكارثية عديدة فى عالمنا الإسلامى، منها اندلاع حرب أهلية ضروس بين المجاهدين الأفغان استمرت أربع سنوات كاملة (من: 1992 إلى: 1996م) والحرب الأهلية التى اشتعلت فى الجزائر إبان التسعينيات، والحرب الأهلية الدائرة فى الصومال منذ أكثر من عشرين عامًا، وهناك حرب وشيكة تطل برأسها بين جماعة تسمى (أنصار الشريعة) فى مالى وبين عدد من الدول تقودها فرنسا، ولا ننسى ما يحدث فى سيناء...!! وعلينا أن نعى حساسية وخطورة ما يجرى حولنا فى المنطقة، ولننظر للأمور من كل الزوايا، فنحن لا نعيش فى الكون وحدنا، ويجب أن ندرك أن أجهزة المخابرات العالمية تسرح وتمرح فى دول الربيع العربى، وبالأخص فى مصر، وهناك قوى محلية وإقليمية ودولية (!!) تنفق بسخاء شديد أموالاً طائلة لإفشال الرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين، رغبة فى إجهاض الثورة المصرية المباركة، وإفقاد شعوب المنطقة ثقتهم فى الإسلاميين وفيما يقدمونه ويطرحونه من مشاريع حضارية للنهوض والتقدم، وهذه التحديات الخطيرة تفرض علينا جميعًا مسئولية مضاعفة تجاه وطننا وثورتنا، فهل سنكون أهلاً للتحدى وعلى قدر المسئولية الجسيمة الملقاة على عواتقنا أم سنسلك دروب الهزيمة والخسران ومسالك الفشل والبوار كما فعل غيرنا باسم الشريعة حينًا، وباسم الوطن حينًا آخر!! * كاتب مصرى [email protected]