كلما نظرت للحجم الكبير للدعاوى القانونية المرفوعة، فيما بين أعضاء وأفراد التيارات والأحزاب السياسية، خلال تصارعها على السلطة والحكم فى مصرنا، أتذكر مقولة رئيس محكمة تركية قال يومًا للتعليق على قرارات القضاء التى تحدث خللاً فى مسيرة الحياة السياسية بتركيا: "لماذا تأتون عندنا، تحملون صراعاتكم السياسية، وتطلبون منا النظر فيها، بينما نحن جهة قضائية، والقانون الذى نتعامل به لا يفهم ولا يعى؟". نعم، إنه من الخطأ الجسيم فى الحياة السياسية، أن يتم اللجوء لساحات المحاكم، للبحث عن حلول لمشاكل وخلافات هى سياسية بالدرجة الأولى؛ لأن المحاكم لم تنشأ أصلاً للنظر فى الصراعات والخلافات السياسية المبنية على أفكار ومعتقدات أو أيديولوجيات.. والمفروض أن يتوقف الفرقاء السياسيون عن الركض لساحات المحاكم، فى كل كبيرة وصغيرة، ولعل ما حدث من قرار بحل وفسخ مجلس الشعب الذى أنفق عليه مليارات من الأموال العامة، والوقت والجهد، ونحن مضطرون بعد أسابيع قليلة لتكرار المصروفات لانتخابات عامة أخرى، فى غضون سنة واحدة، بينما شعبنا يصرخ ويتألم، لعل هذا يكون درسًا أو كأسًا لاذعًا، شديد المرارة، نتعلم منه كيف أن صراعاتنا السياسية على السلطة والحكم أو البرامج الانتخابية، ليس مكانها ساحات المحاكم.. ذلك أن القوانين صمّاء، لا تعى ولا تدرك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئة السياسية. إن الصراعات السياسية يجب أن يكون مكانها الطبيعى هو الندوات والمؤتمرات واللقاءات والمنتديات ومقار الأحزاب والجماعات، مناقشات ومناظرات ومقالات، ثم الاحتكام للشعب عند الخلاف وعدم التفاهم والفشل فى بلوغ حل لمشكلة ما. والمقصود هنا بالاحتكام للشعب هو "الصندوق"، لكى يقرر الشعب ما يشاء ويلتزم الجميع برأى الأغلبية. أتذكر هنا كيف شعر المحامى الذى رفع دعوى بطلان الانتخابات، بالندم الشديد، حين تجاوزت المحكمة الدستورية اختصاصها وقررت غلق برلمان الشعب بالضبة والمفتاح، ومصادرة الإرادة الشعبية جملة وتفصيلاً!.. فى وقت كان يطعن هو على شىء محدد، يتعلق بما أسماه عدم إنصاف المستقلين، ومزاحمة الأحزاب السياسية لهم فى نسبة مقاعدهم.. فكان الحال أن حرمت البلاد من البرلمان التشريعى المعبر عن إرادة الجماهير فى أغلبيتها، بقرار قضائى، وصار كل شخص يتربص بقرارات الرئيس التى تحمل صفة القانون، وحاله يقول: نحن نصنع الديكتاتور بأيدينا. إن مجمل الدعاوى التى تنظرها المحاكم منذ شهور الثورة تصب كلها فى خانة الصراعات والخلافات السياسية، وفى هذه الأيام هناك 48 دعوى تتعلق وحدها بالجمعية التأسيسية للدستور، مع أن الجمعية التأسيسية هى صاحبة الكلمة الأعلى ولا سلطان عليها، إلا ضمير أعضائها، وهى الثانية فى غضون شهور قليلة، وبذلت جهود ومناقشات وخلافات كثيرة لكى تتمكن من إعداد مسودة أولى للدستور، فماذا سيكون الحال إذا كررت المحكمة مصادرة هذه الجمعية ونسف كل ما قامت به؟. إن القاضى الذى صادر برلمان الشعب وحرم البلاد من جهة تشريع رسمية وشرعية، لم يفكر فى العواقب الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية المترتبة على قرار النسف والتدمير، نظر للقانون الأصم وتعامل مع الورق والحبر. ساحات المحاكم ليست المكان الصحيح والمناسب للبحث عن حلول للخلافات السياسية، لأن قراراتها القانونية ستدخلنا فى دوّامة خطيرة من عدم الاستقرار، وإنما يجب علينا تحكيم شعبنا وحده فيما يظهر من خلاف سياسى، واحترام ما يقرره فى الصندوق.