أراني مختلفاً مع تيارين رئيسيين يتنازعان الآن المشهد السياسي، ويحفران خنادقهما العميقة فوق حدوده، ويجران الرأي العام معهما إلى صراع كبير، وكأنهما وحدهما في الساحة، كل منهما يدعي أنه الحقيقة الوحيدة والاجتهاد الأصوب والأصدق والأحق. تيار يرى أن تغييراً كبيراً وإصلاحاً عظيماً قد جرى ويجري بما يحقق الإنجاز الديمقراطي، وأنه كاف وربما زائد على الحد، يفوق قدرة ناسنا وأهلنا على استيعابه وهضمه، ومن ثم فلا مجال بعد ذلك ولا مطالب. وتيار آخر يقف على النقيض يرى أنه لا تغيير على الإطلاق قد حدث، ولا إصلاح قد جرى، حتى ما جرى ما هو إلا عمليات تجميل للوجه وتحسين للصورة، تهربا من الإصلاح الديمقراطي والتغيير الجذري المطلوب. بين تيار التهويل والمبالغة، اكتفاء بما جرى حتى الآن، وبين تيار التهوين والإنكار لما جرى، أعتقد أن الاجتهاد والمنطق يقول إن هناك تغييراً ما قد حدث في الفترة الأخيرة خصوصا، ولكنه تغيير يمضي ببطء، فيحاذر التقدم ويتلفت حوله باستمرار، متخوفاً ومشككاً في نهاية الطريق، قبل أن يضع قدمه على أوله بثبات، ويتيقن أن واقع الحال وحكم التاريخ يدفعه دفعا نحو الإقدام على الإصلاح من دون تردد، وإلا فقد إرادته هو أصلاً. وهذا يعني أن التغيير الجاري الوئيد الخطو، ليس هو غاية المنى ومبلغ الأمل ونهاية المطاف، كما يدعي التيار الأول، بحيث يغلق علينا الطريق حتى قبل أن يبدأ، من ناحية، كما أنه لا يجوز إنكار أن هناك حركة في مجال التغيير، حتى لو كانت نسبية، إنكاراً كاملاً، كما يزعم التيار الثاني من ناحية أخرى. ولكي نجادل التيارين في الأمر يجدر بنا أن نختبر معا بضعة مؤشرات مهمة، برزت في الفترة الأخيرة، لنستدل هل حدث تغيير كامل أم نسبي، بطيء أم مقتحم، أم أن كل ما جرى هو مجرد تزييف وتلفيق وتزويق. دعونا نحاول إذن. * أولا: لقد أدى تعديل المادة 76 من الدستور المصري لانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام من بين عدة مرشحين، إلى توسيع وتعميق الحراك السياسي الشعبي الملحوظ، وربما جاء التعديل استجابة إلى هذا الحراك، وبرغم كل التحفظات التي أبديناها وغيرنا، على “الضوابط المشددة والقيود القاسية” التي وضعها ترزية القوانين لإجهاض المبدأ الرئيسي، إلا أن ما جرى قد فتح الباب أمام شرعية جديدة للحكم، تختلف عن الشرعية الموروثة منذ ثورة يوليو 1952. إن أحاطتها الشروط والقيود اليوم، فحتما ستتحرر منها غدا مهما كان عنف مقاومة أعداء الديمقراطية. ولا ينكر منكر أن هذا الحراك السياسي الواقع قد عكس فورته على عناصر وأطراف العمل العام والقوى السياسية الرسمية والشعبية بدرجات متفاوتة، مثل الأحزاب السياسية المعترف بها (نحو عشرين حزبا) ومثل النقابات المهنية (خصوصا نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة وهيئات التدريس بالجامعات) التي استغلت المناخ المنفتح بشكل من الأشكال لممارسة أدوار أكثر حركية ونشاطا عادت بها إلى العمل العام والشعبي المباشر، فاكتسبت مساحة جديدة رغم كل القيود التي تشكو منها ونشكو. وأظن أن مثل هذا الحراك يخدم الإصلاح الديمقراطي، سواء جاء نتيجة لتعديل المادة 76 من الدستور، أو جاء هذا التعديل نتيجة له، المهم أن ثمة تغيرا ما يجري بالفعل، لا يجب التهوين منه، أو تهويل له.. *** * ثانياً: لا يكفي هنا أن نرصد فقط مؤشرات التغيير بصرف النظر عن مدى قوته ونجاعته، ولكن علينا أساسا أن نختبر مصداقية مؤشرات التغيير الجاري والمطروح بأكبر قدر من المكاشفة والمصارحة. ولنضع عاما من الآن مقياسا لمصداقية هذا التغيير، ونختبره من خلال خطوات التنفيذ والممارسة العملية تجاه موضوعات جوهرية مثل: 1 - انفتح باب الاستعداد للانتخابات البرلمانية التي ستجرى بعد أسابيع قليلة، في منافسة شرسة على شغل 444 مقعداً في 222 دائرة انتخابية، وهي انتخابات ستكون شرسة في مناخ جديد التزمت فيه الدولة والرئيس مبارك شخصيا بالشفافية والنزاهة والحرية، وستخوضها الأحزاب السياسية المعارضة والمؤيدة كما هو معلن حتى الآن.. وفي حين تلملم أحزاب المعارضة الرئيسية (الوفد والناصري والتجمع) قواها الأساسية، لتشكل جبهة موحدة قد تضم آخرين، ولتواجه المعركة بقوة وجرأة وتحدٍ، حرص الحزب الوطني الحاكم صاحب السطوة، على الاستعداد الأقوى، تجنبا أو حذرا من تكرار تجربته القاسية في انتخابات عام ،2000 التي فاز فيها بنسبة 38% فقط قبل أن يستقطب المستقلين والمطرودين والشاردين من أعضائه ليضمهم إلى أغلبيته الساحقة.. والمعيار المطلوب للمصداقية الحقيقية هنا، ليس مجرد كيف فاز هذا الحزب أو ذاك، وبكم من المقاعد، ولكن المعيار الأهم هو كيف جرت الانتخابات وفي أي مناخ وتحت أي ظروف لكي نختبر مدى مصداقية الالتزام بإجرائها في حرية وشفافية. فإن جرت كذلك وطبقا لهذه الشروط الدولية المتعارف عليها، وعلى نقيض ما تشكو منه الانتخابات السابقة في مصر من تزييف وتدخل وتزوير، فإن المصداقية تتحقق لكي تؤكد صدق الالتزام بالسير قدما في طريق الإصلاح الديمقراطي. 2 - أما الاختبار الأهم فينطبق على مدى التزام الحزب الوطني وحكومته، إذا ما فاز في الانتخابات المقبلة، بتنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك الذي دخل به الانتخابات الرئاسية وقد تبناه الحزب برنامجا له في الانتخابات البرلمانية. لقد وعد برنامج الرئيس بإصلاح ديموقراطي خلال فترته الرئاسية الخامسة والجديدة، يشمل حزمة إصلاحات وتغيير واسع، ابتداء بتعديلات دستورية، وإلغاء لقوانين وهيئات استثنائية مثل قوانين الطوارئ، والمدعي الاشتراكي، وتعديل القوانين المقيدة لحرية الصحافة والرأي والتعبير، وتطوير المنظومة الإعلامية، وغيرها بهدف “تعزيز المسيرة الديمقراطية”. ووعد بتحسين أحوال المعيشة ومساندة الطبقة المتوسطة، وتوفير 5.4 مليون فرصة عمل واستصلاح مليون فدان جديد، بهدف مواجهة الفقر والبطالة والغلاء وتدني مستوى المعيشة للشعب المصري، أي أن الهدفين الاستراتيجيين للوعود هما تحقيق الديمقراطية مع العدل الاجتماعي. ورغم جاذبية هذه الوعود فإن المهم ونحن نتحدث عن المصداقية في التغيير والإصلاح، هو الالتزام بتنفيذ الوعود والقدرة عليها، ووضع برنامج زمني عاجل نتحاسب عليه من دون مزايدة أو ترخص. *** * ثالثاً: لا يكفي كذلك في مجال اختبار مصداقية الإصلاح والتغيير الديمقراطي، أن نلقي كل العبء على الآخرين في السلطة أو في الأحزاب والهيئات، ولكن تظل على القوى الشعبية والخلايا الحية في المجتمع أعباء مضاعفة ومتزايدة في هذا المناخ الذي يجب استغلاله جيداً. وأعني أساساً أعباء المراقبة والمكاشفة والمصارحة والمحاسبة والمساءلة، تلك القيم والممارسات التي غابت طويلا لأسباب معروفة، فأفسحت المجال واسعا أمام تحكم تحالف الفساد والاستبداد وهيمنة مراكز القوى وسلطة المال الشرهة. ومن أهم أجهزة هذه المراقبة والمساءلة، البرلمان المنتخب بحرية ونظافة لتمثيل الشعب بصدق، وممارسة دوره المزدوج، وإلى جانبه صحافة حرة مستقلة تتخلص من قيود البيروقراطية وجمود الفكر وفقر الخيال المعرقل لممارسة دورها الحقيقي. ويأتي فوق ذلك دور منظمات المجتمع المدني الفاعلة والمتحركة كما برز ذلك مؤخرا، خصوصا دور المنظمات الحقوقية المدافعة عن حقوق الإنسان والمطالبة بإطلاق الحريات، والمراقبة لنزاهة الانتخابات، وبصرف النظر عن أي انتقاد يوجه لبعض هذه المنظمات وبالتحديد التي تتلقى تمويلاً أجنبياً، فإن دور المجتمع المدني وحرية حركته، أصبحا مقياساً للتطور الديمقراطي في عالم اليوم، وهو الأمر الذي يحب أن نشجعه وندفع به، سلاحاً من أسلحة قياس المصداقية ومراقبة التغيير. * رابعاً: وبفضل كل ملامح ومؤشرات هذه الحركية - الديناميكية، وفي ضوء نجاحها أو فشلها في عبور هذه الاختبارات يمكن أن تنهي مصر عاما من القلق والتوتر، من اختراق الصمت والجمود السياسي واقتحام أبواب التغيير، من الجدل والعراك حول ضرورات الإصلاح الديمقراطي ومفاهيمه وأساليبه، من الصراع المحتدم بين سلطة الدولة القابضة وبين حركة الشارع الغاضبة، لكي تدخل عاماً جديداً أظن أنه سيكون عام وضوح الرؤية وتبديد الضباب الذي غطى الإجابة الصادقة، عن سؤال جوهري ظل يتردد لسنوات طوال، وهو لماذا تخاف مصر بكل تراثها وتاريخها وحاضرها من الديمقراطية، لماذا لا تفتح الباب لتغيير وإصلاح حقيقيين في المنطقة العربية كلها بعد قرون من الانغلاق والتعتيم، الذي لم يلد إلا ثنائية الفساد والاستبداد؟ ----- صحيفة الخليج الاماراتية في 5 -10 -2005