أستعير هذا العنوان من مقال كتبه صديقى الدكتور محمد على العريان .. عندما زار مصر - بعد غيبة طويلة - فى أواخر عهد السادات، فهالَهُ ما لاحظ من انْقلاب فى حياة المصريين: سلوكياتهم، وقِيمهم الأخلاقية، وعلاقاتهم الاجتماعية.. مما شكّل له صدمة، جعلته عاجزًا عن فهْم مشاعر الناس الحقيقية؛ لأن تعبيراتِ وجوههم لم تعدْ تتأثر ولا تتغير بما يقولون أو يسمعون.. وفى هذا يقول: "رأيت أقنعة ولم أرَ وجوهًا حقيقية.. لقد انْطمسِتْ الوجوه.. توارتْ خلف أقنعة صناعية، لا علاقة لما يبدو عليها، بما يجرى فى العقول والمشاعر.."، ومن ثم راح يبحث عن هذه المشاعر فى الأقْفِيِةِ بدلا من الوجوه.. حيث الأقفية ما تزال أقرب إلى الطبيعة، لا يُحْتَمَلُ معها تزوير فى الانفعالات.. ومن ثم كان عنوان مقاله "نظرية الأقفية".. فيها من الفكاهة الساخرة بقدر ما فيها من الحسرة والأسى.. المزج بين السخرية والحكمة.. بين الجدّ والهزل، من خصائص الدكتور العريان، لا فى كتاباته فحسب، بل فى حياته العامة: وله فى هذا نوادر وطرائف لا حصر لها.. سمعت بعضها من الدكتور عبد الوهاب المسيرى، فقد كان تلميذ العريان فى مدرسة دمنهور الثانوية.. وستجد الكثير من الصور الساخرة فى آخر كتاب له بعنوان: "العريان والزمان"، سجّل فيه خبراته مع الناس والحياة.. آخر رسالة وصلتنى منه يقول فيها: "أكتب إليك وأنا فى الطائرة متوجِّهًا إلى سويسرا، فقد وقعتُ على الأرض من الزحام أثناء أداء العمرة، فتهَشّمتْ عظام الحوض، ونُصِحْتُ بالْتماس العلاج فى سويسرا، لأنها حالة معقّدة؛ فأنت تعلم أنِّى مصاب بالسكّرى وهشاشة العظام.. ولا أدرى إن كنتُ سأراك أمْ لا..؟ على أى حال نلتقى إن شاء الله، فى الدنيا أو فى الآخرة..!، وكان قد أودع عندى كُتبه قبل السفر.. فأضاف: "ستصلك وصيّتى بشأن الكتب إن لم يُقدَّر لنا اللقاءُ فى هذه الدنيا..". كان - يرحمه الله - لا يعوقُهُ عن إطلاق النكتة الساخرة شيء، حتى وهو فى أشد حالات الألم.. وكانت له قدرة فريدة على التصوير الكاريكاتيرى للشخصيات التى ينتقدها؛ إذ يسدِّد إليها طعناتٍ رشيقة كوخْز الإبَرِ، أما إذا استبدّ به الغضب والقرف من شخصية مقزّزة، فإنه يطعن بكلمات عنيفة، كالصّفع المُدَوّى على الأقفية، ومثال ذلك: مدير مدرسة عَمِلَ بها أيامًا، ثم تركها احتجاجًا على أسلوبه الديكتاتورى فى الإدارة.. كتب فى وصفه: "إنه كائن لا يُطاق.. فقد كان مسْخًا مستبدًّا، مُفْرِطًا فى الترهُّل.. يمتلئُ مقعده بكرش يغطّى ركبتيه.. ويتَهَدَّلُ شحمه من الجانبين.. لا تكاد تميّز بين وجهه وقفاه عن باقى جسمه؛ فهو كتلة واحدةٌ متّصلةٌ بلا عنق.. كلامه صياح ناشذ مختلط بِضُرات.. حتى لَتَسْمَعُ صوته وتشم رائحته الكريهة عن بُعدٍ..". ووصف هذه الشخصية مرة فقال: "إنها كتلة مرَضيّة فى جسم المجتمع؛ فالشحم المفرط المكتنز فيها، هو طعامٌ مسروقٌ من أفواه عشرات الجوعى والمحرومين من أبناء المجتمع..! فما الذى استدعى هذه الصور، وبعثها من مَرْقدها فى أعماق الذّاكرة..؟! إنه مشهدٌ تلفازى مُقزّز لإبراهيم عيسى، وهو يجلس على مقعدٍ كبير يملأه بجسم مكتظٍّ بشحمه المُتَنامِى، ويجلس أمامه تابعٌ إمّعة؛ هو رسّام كاريكاتير مغمور، لم يجد ما يثير خياله المريض، سوى لحية رئيس الجمهورية وقفاه، ليرسمهما فى أشكال منافية للذوق، لا تثير خيالا ولا تنِمُّ عن موهبة.. جلس إبراهيم عيسى طول الوقت يسخر ويتطاول على الرجل الفاضل بلا مبرر.. بعبارات وإشارات بذيئة.. وهو يقهقه كأنما أصابته نوبة من الإسهال الهيستيرى الضاحك.. بلا سبب واضح.. فلم يكن فى الأمر ما يثير الضحك، بقدر ما يبعث على الدهشة والاشمئزاز.. لقد تحول المشهد من إعلام ذى مضمونٍ محكومٍ بقواعدَ مهنيّة، إلى غرزة حشاشين، فى أحط عشوائيةٍ مُنْفَلِتَةٍ من كل قواعد الذّوْقِ والأخلاق...! "القفا" كلمة عربية، لها فى الأدب والتاريخ والدين والسياسة وعلم النفس، والموروث الشعبي، استخدامات تكاد لا تُحصى.. ومع ذلك لم ترد فى القرآن بلفظها أبدًا، وإنما اسْتُعيضَ عنها بتعبير مجازى يرمز إليها.. لحكمة لا يدركها إلا الله.. ربما لسابق علمه أنها ستكون مستودعا لنفايات لفظية من السخرية والسخافات والسفاهات، تُسْتَحْضَرُ إلى الذهن بمجرّد ذكرها كتابةً أو نُطْقًا.. لذلك تجنّب القرآن استخدامها.. ولعل هذه واحدة من معجزات القرآن فى استشراف المستقبل البعيد..! انظر إلى قوله تعالى: {...مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا...}، والطمس هو المَحْوُ؛ لذلك استنتج بعض المفسِّرين أن يتحوّل الوجه بالطمس مسطّحًا ممْسوحًا كالقفا، خالٍ من الملامح الإنسانية التى ميّز الله بها الوجه الإنسانيّ.. ورأى بعضهم احتمالا آخر للمعنى، فقال: "إن طمس الوجوه هنا يعنى رَدُّهَا إلى الأدبار، بجعْلِ أبصارهم مِنْ ورائهم.. ويحمتل أن يكون المراد هو: "ألّا نُبقى لهذه الوجوه سمعًا ولا بصرًا ولا أثَرًا.. أو نجعل وجوههم من قِبَلِ أقْفِيَتِهِم؛ فيمشون القَهْقَرَى، أو نجعل لأحدهم عينين من قفاه.. بدلا من وجهه.. وهذا أبلغ فى العقوبة والنَّكالْ".. ثم يضيف: "وهو مثلٌ ضربه الله لهم، فى صرْفهم عن الحق وردّهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجّة البيضاء إلى سُبُل الضلالة.. حيث يمشون القَهْقَرَى على أدبارهم..". وقد لاحظ أحد الظُّرفاء عرامةَ الغضب الذى استبد بالمصريين بعد الثورة، على شخصيات بليدة الحس، تربّعتْ فى مقاعد السلطة اغتصابًا، وفى مقاعد الصحافة والإعلام ميراثا أو عِمالةً، فقدّم نصيحةً عبقريّةً لامتصاص الغضب الجماهيري.. بإقامة تماثيل فى الميادين العامة تمثّل الشخصيات المكروهة من الشعب.. قابلة للضرب على القفا...! من جانبى: أرشِّح لقائمة هذه الشخصيات المكروهة: إبراهيم عيسى وتابعه الإمّعة.. مع لفيف من الصحفيين والإعلاميين الذين اتخذوا من الكذب بضاعة لتضليل الناس واللعب بعقولهم، ومن الختال والمكر أسلوبا فى اصطياد المتحدثين خالى الذهن، لتوريطهم فى تصريحات ساذجة، بُغْيَةَ السخرية والاستهزاء بهم، إرضاءً لأصحاب الفضائيات من أعداء الثورة المصرية.. لاحظ الدكتور العريان فى مقاله أن الأقفية تتمايز فى أحجامها وأشكالها وتقلّصاتها وحركاتها.. وأن فى كل حالة منها تعبيرا برّانيّا لما يدور فى أخْلادِ أصحابها.. ثم مضى بعد ذلك يفصّل فى خصائص وأخلاقيات كل نوع منها، فهناك: المقتّر البخيل، والمبذر المستهتر، والخجول، والصفيق، والمستبد المتكبر، والمنافق المتلوّن، وصاحب الرأى والإمّعة، والفاجر المجاهر بفجوره، واللص المتسلل إلى أموال الناس وأعراضهم.. الخائض فى شرفهم وسمعتهم.. إلى آخر هذه الخصال البشرية المتباينة.. حتى أوضاعهم الاجتماعية استطاع الدكتور العريان أن يقرأها فى أقفيتهم.. فكيف استطاع هذا..؟ لا أدرى، ولم أناقشه فى ذلك عندما عاد إلى كانبرا فى ذلك الوقت فقد كنت مشغولا بأشياء أخرى.. فى هذا السياق، تنصح سيدة عربية على موقعها الإلكترونى قريناتها بدراسة أقفية أزواجهن، للتعرّف على صفاتهم وأخلاقهم. أما أنا فأعتقد أن المخطوبات أولى بهذه النصيحة، فى الاهتمام بأقفية خُطّابهنّ قبل أن تقع الفأس فى الرأس...! ولا يهمّ بعض الساخرين من إخوانهم إلا درجة حرارة الأقفية فيسألون: "هل أصبح قفاك ساخنا لتسوية الخبز عليه..؟" وهذا هو المعادل الموضوعى للمثل الشعبي: "خرج وقفاه يقمّر عيش".. ومن أمثلة السخرية بالشخص الصفيق "المتنّحْ لا علاج له إلا الصفع على القفا.."، ومن الاستخدامات المبتذلة لكلمة "أقفية" ما يذكره صحفى لبنانى عميل لبشار الأسد، وهو يتهكّم على الثورة السورية، معلِّقًا على صورٍ مأخوذة لبعض المتظاهرين من الخلف فيقول: "إنها ثورة الأقفية..". ويذكر لنا التاريخ أن أحد أباطرة الرومان كان يحلو له أن يأمر بتركيع صفّ من العبيد ليمشى بحذائه على أقفيتهم متّجهًا نحو عرشه.. وقد رأيت بنفسى نموذجا مصغّرا لهذا، صباح يوم من أيام عام 1943م - وأنا ذاهب إلى مدرسة "الفاروقية الابتدائية بالزقازيق" على باب معسكر مجاور للمدرسة - ضابطًا إنجليزيا أشار إلى جندى من السيخ أن يركع، ثم وضع حذاءه على قفاه ليرتفع عليه إلى صهوة جواده.. وكان ضرب السياط على الأقفية من أساليب التعذيب التى مارستها الكنيسة ضد معارضيها فى أوروبا.. فيما عرف باسْم "محاكم التفتيش". وأخيرا أذكّرُ القُرَّاء بمقالى السابق، إذْ أكّدتُ فيه أن ما حدث للصحفية مُنى الطحاوى فى مترو نيويورك، قُصِدَ به إثارة ضجة مفتعلة حولها، وتوقّعتُ أن يكون هذا تمهيدا [لدورٍ وشيكٍ ستقوم به فى مصر..!]، ولقد بدأتْ تنفّذ بالفعل دورها المرسوم لها، بفرقعة إعلامية فى جريدة الأخبار، إذْ نشرت خبرا مجهول المصدر، عن توسّط الرئيس مرسى للإفراج عنها، وبدلا من أن تكذّب الجريدة، تحوّلت إلى الرئيس تهاجمه بغوغائية، حيث تقول له: "متعملشِ بطل على قفايا.."، ولذلك أقْتَرِحُ أن نضيف هذا القفا إلى مجموعة الأقفية التى ستحظى أيدى الجماهير بمصافحتها فى ميدان التحرير.. عمّا قريب...! [email protected]