أسدل الليل ستاره علي مكة ولفها السكون ولم تهدأ عينا " أم كلثوم بنت عقبة " وظلت تحدق في الظلام وتشعر بكثافته وثقله وكأنه يحاول أن يتغلغل في أعماقها ويتسلل إلي روحها ليطفئ ما انبعث بداخلها من نور. بالأمس القريب كانت تأتنس بقرب الرسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته منها، صحيح أنها لم تعلن إسلامها علي الملأ خشية بطش أبيها عقبة بن أبي معيط وأخويها عمارة والوليد وهم من أشد الكفار عداوة لدعوة رسول الله صلي الله عليه وسلم يغرهم مالهم من قوة ومنعة ومكانة من قريش وكان عزاؤها أنها تظلها مع إخوانها المؤمنين سماء مكة وتتنفس هواءً يحمل شذا القرآن الكريم وتعطره أنفاس الرسول النبي وأحاديثه ، كما كانت تلوذ بأمها ( أروي بنت كريز بن ربيعه ) فتسمع منها ما يثبت فؤادها ويثلج صدرها من أخبار أخيها لأمها ذي النورين " عثمان بن عفان ""رضي الله عنه. أما اليوم وبعد هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته إلي يثرب فهي تشعر أنها قد أضحت أسيرة في مكة التي أقفرت وانطفأت بهجتها وسادها ظلام الكفر والجاهلية. وزاد أمرها رهقاً ما سمعته عن إبرام "صلح الحديبية " بين رسول الله ومشركي قريش وكان من بين الشروط الصلح أنه من جاء من مكة مهاجراً يرده المسلمون إلي المشركين ومن جاء إلي مكة مرتداً من المسلمين فلا يرده المشركون وأوقف هذا الشرط الهجرة من مكة إلي يثرب وأغلق باب الأمل الأخير في وجه أم كلثوم. وبينما هي تفكر في أمرها ورد إلي خاطرها هاجس إن أخويها عمارة والوليد يتوجسان منها ويشكان في أنها تابعت أمها وأخاها عثمان وأسلمت فماذا لو جاءها أحدهم غداً بأحد أصدقائه من صناديد الكفر في قريش ليفرضه عليها زوجاً ؟ ولا طاقة لها وحدها بمواجهتهم بإيمانها وبرفضها لما هم عليه من شرك وجها له،وهكذا لم تجد أمامها من سبيل إلا الهجرة واللحاق برسول الله صلي الله عليه وسلم وبمن سبقها من المؤمنين في تلك المدينةالمنورة بالإيمان " يثرب " لكن كيف تهاجر وهي امرأة وحدها في طريق محفوف بالمخاطر والصعاب وهيأ الله لها مخرجاً ، فقد علمت أن أحد المسلمين من خزاعه يريد الهجرة ولا يملك ناقة ولا زاداً فاتفقت معه علي أن تعد له الزاد والناقة ويكون صاحبها ودليلها وحارسها في رحلتها الشاقة وفي الموعد المحدد كان الرجل الخزاعي في انتظارها وسار بناقته أمامها وهي من خلفه وأخيراً لاحت لأعينهم أنوار المدنية وغسلت الفرحة بلقاء الأحباب ومجاورة الرسول كل ما سبقها من أدران الأحزان. لم تدم الفرحة طويلاً فسرعان ما لحقها أخواها عمارة والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وزلزلت أصواتهما وهما يطالبان الرسول صلي الله عليه وسلم برد أختهما طبقاً للشروط التي تضمنها صلح الحديبية نفس أم كلثوم. وفاضت دموعها وهي تدعو يا إلهي هل أعود معهم ليصلياني عذاباَ تتأجج نيرانه في عيونهم وتفوح رائحته من نبرة صوتيهما وغلظ قلوبهما الذي أعرفه جيداً ، هل أترك واحة الإيمان والإسلام إلي جحيم الكفر والعصيان، وتوجهت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وقالت ( يا رسول الله إنني امرأة وحال النساء إلي الضعف وأخشى إن رجعت إلي مكة أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي ) ولم يجد الرسول صلي الله عليه وسلم ما يجيبها به فالصلح يلزم بردها وقد رد رجالاً قبلها واستجاب الله لدموع رجائها ونزل قوله تعالي : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلي الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهن ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) الممتحنة 10، وامتحنها رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال ابن عباس : كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلي أرض وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله. وأمتحن النبي صلي الله عليه وسلم أم كلثوم فقالت والله ما أخرجني من مكة إلا حب الله ورسوله والإسلام ورددت الشهادتين فلما تيقن صدق إيمانها رفض أن يردها، وبهذا تكون أم كلثوم بنت عقبة هي الممتحنة التي أنزل الله فيها قرآنا يتلى عبر القرون وإلي يوم القيامة وهي أول من هاجرت ناقضة شرط صلح الحديبية الجائر وفتحت الباب علي مصراعيه أمام غيرها من النساء للهجرة . [email protected]