الجوافة ظهرت تباشيرها فظهرت تباشير القلق, ينتشر البلح الأمهات فأغرق فى القلق, إجازة الصيف تركب طائرة الرحيل, والمذاكرة لابد منها.. وارتبط البلح والجوافة بترتيب المكتب والغرفة, وعمل الجداول, وأنتظر البرتقال. غادرت المدرسة والجامعة منذ سبعة عشر عامًا, وما زلت فى السابعة عشر عامًا, طالبًا قلقًا, أنام فأحلم بالامتحانات, بكابوس الثانوية, بصراع بين أسرة تصر على القسم العلمى, ومراهق مشغول بنزار وشوقى وناوٍ على القسم الأدبى, سبع عشرة سنة مرت وما زلت مفتونًا بالأقلام والكراريس وما زلت أصحو مفزوعًا أنى تأخرت على المدرسة. يغادر الصيف, ويحل الخريف, فتبدأ أحزان المساءات,و تملأ الأنف رائحة الكتب, فللكتب رائحة, ولكل كتاب ذكريات مع صوت المذياع, فات زمن الراديو, وحطت أطباق الفضائيات كالغربان فوق الأسطح وعلى الشرفات, ولا يزال الراديو صديقى.. فيا ليتنى ما زلت بالمدرسة. يأتى الخريف بموعده, فنفاجأ, كأنه أول مرة يأتينا, نراقب الأشجار, كلما اقتربنا من شجرة, واسيناها وخففنا من حزنها على أوراقها التى آذنت بالسقوط, تصفر شوارع روضة المقياس وتعصف الريح بالأوراق المتشبثة ببقايا الصيف, ويأتى الشجن. يأتى الخريف فأحن لسور المقياس, أحن إلى عبد الوهاب, كثيرون غنوا للنيل, لكن كعبد الوهاب لا.. لا أنتبه أن النيل إنسان مسافر إلا حينما أسمع عبد الوهاب, فات زمن السماع, وأصبح بالصدفة, وبقى النيل مسافرًا زاده الخيالُ, والسحر والعطر والظلالُ/ ظمآن والكأس فى يديه/ والحب و الفن و الجمالُ// يعتذر الصيف, ويدق الخريف على الباب, وخلفه شتاء يتخفى, فأنتبه لقلبى وأحترس من المطر, فبعض القلوب عصافير يبللها المطر, نزار قبانى أحد هؤلاء العصافير "إذا أتى الشتاء.. /وحركت رياحه ستائرى /أحس يا صديقتى /بحاجة إلى البكاء... إذا أتى الشتاء /وانقطعت عندلة العنادل ِ/وأصبحت كل العصافير بلا منازل ِ/يبتدئ النزيف فى قلبى.. وفى أناملى/كأنما الأمطار فى السماء /تهطل يا صديقتى فى داخلى".. يغادرنا الصيف, ويغادرنا الأصدقاء العابرون, ونلتقى أنفسنا من جديد.. ينام الصغار, ويخفت صوت الجيران, وتغتسل الشوارع القديمة, فتزورنا الأمكنة التى غادرناها ولم تغادرنا. أنت والصمت والهدوء وأنهار الذكريات ومفاتيح كنوز بحور الحنين, كلها موعدها الشتاء.. عجيب أمر الشتاء, وعجيب أمر المحبين.. وغامضة كضباب الشتاء, هى طريق الناظرين للسماء, فاستمسك بالحب, فبالمحبة نبقى شبابًا وبالكراهية يشيب الشعر. حين نحب نرتفع وحينما نبغض لا ننظر للسماء. [email protected]