أذكر أننى حضرت تحقيقا بنيابة أمن الدولة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم قرب نهاية عصر السادات، ووجه المحقق إليه تهمة الاشتراك مع آخرين فى تشكيل تنظيم سرى يهدف إلى قلب نظام الحكم، ولم نكن نتوقع ولا كان المحقق يتصور أن يعترف نجم بما هو منسوب إليه، ولكننا فوجئنا به لا ينفى التهمة بل يسجل فى أوراق التحقيق الرسمية أن نظام الحكم مقلوب فعلا، ولا يحتاج لأحد ليقلبه، وأن التكييف السليم للتهمة التى يجب أن توجه إليه والى الآخرين من أمثاله أنهم يريدون أن يعدلوا النظام، لا أن يقلبوه! وكلما زادت أمامى مظاهر انقلاب الصورة تذكرت ذلك اليوم البعيد الذى أعجبنا فيه بتكييف نجم لحال النظام المقلوب، ولا أتصور ما الذى يمكن أن يقوله هؤلاء الذين ناضلوا من أجل عدل نظام الحكم بعد كل هذه السنين انقلبت فيها الأحوال إلى ما لم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين! فى أسفل الصورة المقلوبة شعب ذاق الأمرين وزيادة، وهو لا يزال يكافح كل يوم بل كل ساعة من أجل أن يجدد قدرته على الحياة، وفوقه طبقة من المنتفعين واللصوص وأصحاب المصالح لا يفوتون فرصة سانحة من أجل اكتناز المال، وتهريب ما خف حمله وغلى ثمنه، وفوق الجميع محاولات مستميتة من أجل التوريث الذى لا نتيجة له غير استمرار الأوضاع المقلوبة إلى ما شاء الله! وما يؤسف له أن النظام المقلوب ضيعنا فى موضوع الإصلاحالاسم العلنى لعملية عدل النظام وجعلونا نسأل:،هل إصلاح من الداخل، أم إصلاح من الخارج، وشربنا المقلب المدبر بحنكة من الذين لا ينوون إصلاحا لا من الداخل ولا من الخارج!. ولم يلتفت أحد فينا إلى أن السؤال الحقيقى يجب أن يكون عن أى إصلاح ٍ نريد، وكيف نعدل الحال الذى لم يعد لسوئه مثال، وجعلتنا الأوضاع المقلوبة نتوه فى غيره من الأسئلة، والكثير من التفاصيل التى تعيد إنتاج الحال المقلوب مائة مرة إذا بقيت الأوضاع المقلوبة بون تغيير! دخلنا متاهة أو مسرحية الانتخابات الرئاسية، وندخل الآن لعبة الانتخابات النيابية محكومة النتائج التى تبقى قوانين اللعبة فى أيدى غاصبى السلطة! ولا شك أنهم واهمون أولئك الذين يتصورون أنهم حققوا مطالب الشعب بما يسمى جبهة المعارضة سواء كانت إنتخابية أم غيرها، فما نيل المطالب بمثل هذا التسكع وراء الأهداف الخطأ، أو باللعب فى حدود الملعب الذى حدده أصحاب اللعبة أنفسهم، أو بالمراوحة عند الأساليب القديمة التى لم تفلح مع نظام طبيعته قائمة على اغتصاب السلطة والبقاء فيها بالتزوير والبلطجة وبالأموال المنهوبة وبالإفساد العام! واهم من يتصور أن إنجازاً ضخماً تحقق إن كسبت المعارضة مجتمعة هذا الرقم من المقاعد أو ذاك حيث تبقى مقاليد اللعبة فى ايدى القائمين على النظام المقلوب، وإن قذف بكرات التدريب لبعض المعارضة لبعض الوقت! تبقى اللعبة لعبة النظام المقلوب ويبقى أنه حدد ساحة الملعب، والجميع الآن ذاهب بمحض إرادته إلى أبواب التزوير المفتوحة على مصاريعها، ولتبقى القوى والأحزاب السياسية حبيسة الحدود التى وضعها الرئيس بنفسه، وبقوانين استنها بأغلبيته، وبشروط يستخدمها لتثبيت نظامه، وبحصار داخل المقرات الحزبية المغلقة، والصحف محدودة التأثير، وأوضاع دستورية وقانونية تكرس سيطرة حزب المصالح على الدولة، وتضمن له البقاء فوق الكرسي، وتمنع قيام أى بديل جدى لنظام انتهى عمره الافتراضي! وليس أمام المعارضة إلا أن تخرج من الساحة التى حشرتها فيها الأوضاع المقلوبة إن هى ارادت ان تغير قواعد اللعبة، وتطلق لنفسها القدرة على عدل النظام. هذا وقت لابد أن تجمع القوى الحية فى مصر كلمتها على دستور جديد للبلاد، وأن يكون هذا هو هدفها الأسمى الذى لا يحرفها عنه خطط الذين يعدون لبقاء الحال إلى ما يشاء الله! هذه لحظة عدل النظام الحاكم بعدما فقد الحد الأدنى من القبول الشعبى بوجوده، وتلك لحظة التغيير المناسبة، والبداية فى رفض هذا المخطط أن تجتمع كل قوى المعارضة على فرض نقطة وحيدة على جدول أعمال مصر هى دستور جديد للبلاد. نظام مقلوب وحمل كاذب قبل ثلاثة أشهر صدرت جريدة اخبار اليوم برسم كاريكاتورى على صدر صفحتها الأولى فى طبعتها الأولى ثم تغير كلام الكاريكاتير بالأمر المباشر من ذوى السلطة، كان الكاريكاتير الأصلى الذى يتحدث عن الأحوال فى مصر عبارة عن سيدة حامل وقد وقفت تعبيرا عن الألم وهى ترتدى رداءها الأخضر وبجوارها مواطنان يقول أحدهما للآخر: ما هٌوَ يا ولد.. يا بنت فيرد عليه زميله وهو يطرح احتمالا مغايرا لثنائية الولد أو البنت: ليه؟ جايز يكون حمل كاذب! والرسم الكاريكاتورى بهذه الصورة هو واحد من الرسوم القليلة التى تشهد لرسام الكاريكاتير مصطفى حسين بالقدرة على إبداع فكرة رائعة كما هو رائع فى الرسم، ولكن أصحاب القرار سارعوا إلى الأمر بتغيير الكلام المصاحب للكاريكاتير ليصبح كلام المواطنين واحدا ويؤكد اتفاقيهما ومعهما جميع المواطنين خارج الكاريكاتير على أنه: مهما كان الألم فالمولود الجديد يفرح! وبينما حافظ التغيير بالأمر المباشر من السلطات العليا على المستوى العادى والمعتاد من رسوم مصطفى حسين الكاريكاتورية، إلا أنه تحاشى الكلام عما إذا كان المولود ذكرا أم أنثى ليس لأن البنت زى الولد فى نظر النظام، ولكن لأن أهل الحكم قرروا تشويه المولود وجرت عملية تشويهه على مرأى ومسمع من جميع المصريين، والعالم معهم يسمع ويرى عملية الولادة المتعسرة والتشويه المتعمد لمولود طال انتظاره على طول السنين ثم جاء تعديل المادة 76 من الدستور ليعلن موت المولود! كان المصريون ينتظرون ميلاد دستور جديد يعيد الأمر فى اختيار رئيس الجمهورية إليهم فإذا بالتعديل الجديد يكفل للرئيس أن يبقى رئيسا مدى الحياة، وكفل لنجله من بعده أن يكون المرشح الوحيد للرئاسة التى سيبقى فيها بدوره مدى الحياة حتى نهاية عصر دولة المماليك المنوفية! وهو إنجاز جديد للرئيس مبارك أن أعاد إلى مصر حكم الأسر الذى بدا لفترة من الزمان أنه ولى إلى غير رجعة! ورغم أن مظاهر الحمل الكاذب تبدو على كل التصرفات الصادرة عن الرئيس وحزبه، ورغم أنه لم يحدث أية استجابة لأى مطلب نال الإجماع الشعبى عليه، إلا أن كبار رجال السلطة يؤكدون أن أغلبية الشعب تؤيد وتبايع الرئيس وولده، وتشجب وتستنكر أفعال وأقوال المطالبين بعدل النظام! ورغم أن خطة الرئيس فى بقاء الحال على ما هو عليه تمضى فى طريقها، بالعند فى المعارضات التى تتوالد فى مصر كل يوم بطريقة ملفتة للنظر وللناظرين إلا أن أهل السلطة لا يرون غير أن المولود المنتظر يفرح! الغريب أن عمى البصيرة لا يجعل أهل الحكم يرون أن الشعب كله يعرف الآن أن الحمل كان كاذبا، وأن الحامل أسقطت بفعل بفاعل لتبقى الأوضاع المقلوبة وليطول عمر النظام منتهى الصلاحية إلى أجل غير مسمي! وأول طريق التغيير أن تعقد قوى المعارضة العزم على أن تقلب نظام الحكم الحالى بدستور جديد، أو هى فى الحقيقة تعقد العزم على عدله على طريقة عمنا نجم! ------------------------------------------------------------- صحيفة العربي الناصري