مما لا شك فيه أن حب مصر ليس كلمة تقال، بقدر ما هو براهين تُقدم وأفعال تُترجم، وقد اختار الشاعر: حافظ إبراهيم كلمة (المكابدة)عند التعبيرعن هذه البراهين فى قوله: كم ذا يكابد عاشق ويلاقى فى حب مصر كثيرة العشاق للإشارة إلى أن حب مصر يتطلب العظيم من الأفعال، والكبير من البراهين، ذلك أن من طلب الحسناء لم يغلها المهرَ، كما قال بذلك أجدادنا العرب. وفى هذا المقال وما يليه سأوضح بأمر الله تعالى رؤيتى الخاصة لحب مصر فى عدد من الخطوات والأفعال، التى يجب أن يقوم بها من يدعى حب الوطن والحرص عليه: وأولها: إحسان الصلة بالله سبحانه وتعالى، والخوف منه ومراقبته فى السر والعلن، مع إخلاص العمل له تعالى وحده، وهذا أمر لا تصلح الدنيا والآخرة بغيره، وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على غرسه فى نفوس المسلمين عندما أخذ يعمل لتأسيس الدولة الأولى، ويضع المعايير لقوتها ونهضتها، وقد جعل الله تعالى هذه الخطوة مفتاح كل شىء، فهى مفتاح النصر العسكرى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وهى مفتاح النهضة العلمية (واتقوا الله ويعلمكم الله)، وهى أيضا مفتاح الوحدة الاجتماعية (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)، وهى كذلك مفتاح التقدم الاٌقتصادى، ومفتاح التنعم بما فى مصر من كنوز وثروات (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). ولا يفوتنى هنا أن أستأنس بما ذكره القرآن الكريم من أن أهل مصر على عهد فرعون (موسى) قد حُرموا من خيرات بلادهم وثرواتها، وأغرق فرعون وجنوده فى أحد بحارها؛ لأنهم عصوا الله تعالى، وعاندوا نبى الله موسى عليه السلام، ولم يمتثلوا لما جاءهم به، وقد حكى القرآن الكريم ذلك لتعتبر به، ونحذر من الوقوع فيه، فى قوله تعالى:(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّى آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَكَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ). ثانيا: الأخذ بأسباب النهضة والتقدم من إتقان للعمل وتفان وإخلاص وإبداع فيه، وهنا لا بد من التوقف مع عنصر الإبداع، الذى يجب أن يكون هدف من يدّعون حب مصر فى المرحلة المقبلة، ذلك أن مصر لا تحتاج من أبنائها مجرد العمل الذى يؤديه الموظف بلا روح أو بغير حماس، إنها تحتاج من جميع أبنائها على اختلاف تخصصاتهم إلى الإبداع، إلى الجرأة والجسارة، إلى اقتحام ميادين العمل الصناعى والزراعى وكل ما يصنع النهضة الحقيقية، ويخلق كثيرًا من فرص العمل، ويحقق لنا الاكتفاء الذاتى فى جميع المجالات، ويضعنا فى مصاف الدول المتقدمة، ويأخذ بأيدينا بعيدا عما يعرفبالدول النامية. وإن من أشد ما يزعجنى ويقلقنى رواج نموذج الاستثمار العقارى، سواء ببناء أبراج فى مدن غير مؤهلة لذلك من حيث البنية التحتية والمرافق العامة، أو بشراء الأراضى وتركها حتى يرتفع سعرها، ونموذج الاستيراد والتصدير الذى هو فى حقيقته استيراد بلا تصدير، وغيرهما من النماذج التى تُؤثِر بسطحيتها الربح السريع الذى يأتى بغير مجهود، والذى يجعل من مصر سوقًا استهلاكية، ويصيب أبناءها على اختلاف تخصصاتهم بالكسل العقلى والعجز الكلى عن التقدم والمنافسة، ولنا فى كوريا الجنوبية النموذج والقدوة، حيث تحولت خلال خمسة عقود من الفقر إلى الغنى، ومن دولة معدومة الموارد إلى دولة تصنع وتصدر كل شىء. وإن مصر- بتوفيق الله تعالى، ثم بإبداع أبنائها، وقدرتهم على استخراج واستغلال ما فيها من ثروات - لقادرة على أن تحذو حذو كوريا الجنوبية، بل إن لديها القدرة على أن تتفوق عليها وعلى غيرها، متى أحسنا صلتنا بالله، ومتى أخذنا بالأسباب.