قصص ومآس من دار المسنين.. آباء وأمهات يعانون جحود ونكران الأبناء تركت شقتها لابنها من أجل الزواج.. فطلبت منه زوجته إيداعها دارًا للمسنين. «أم طارق».. ضحت من أجل «ستر» بناتها فكانت المكافأة نسيانها بعد زواجهن كافحت من أجل تربية أبنائها ب «العمل فى البيوت».. فلما كبرت تخلوا عنها وأشفق عليها الجيران «الشاب الجنتل» بعد وفاة زوجته وزواج أولاده الثلاثة لم يطق العيش وحيدًا اختاروا ألا يكونوا عبئًا على غيرهم طائعين، أو ربما أجبروا على أن يعيشوا ما تبقى لهم في الحياة داخل دور للمسنين، يتذكرون الأيام الخوالي، ويعدون الأيام والليالي التي يرون فيها أحبة لهم، وإن باعدت بينهم المسافات، لكنهم لم يغادروا القلوب أبدًا. هذه الدور على قدر ما تحمل من أثاث وأمتعة وأشياء أخرى تأن بهموم كالجبال وأحزان داخلية يحفظها ساكنوها، رجال مسنون، ونساء عجائز؛ أملًا في أن يأتي يوم، ويشعر من أخطئوا بحقهم بالندم، وأنه لولا هؤلاء الذين يتنكرون لهم الآن ما كان لهم أن يأتوا إلى الحياة. شخصيات عديدة، رصدتها "المصريون"، بين أولئك الكبار الأعزاء فترى بين عيونهم الطمأنينة وبين أحضانهم الدفء والطيبة، يتفق غالبيتهم في الأسباب التي أتت بهم إلى هذا المكان، وهي قسوة وجحود الأبناء عليهم، واختاروا لهم أن يمضوا سنوات عمرهم المتبقية وحدهم، حيث لا قريب يؤنسهم، ولا أبناء يوادونهم، بعدما تركهم فلذات أكبادهم، وتزوج من تزوج منهم، وهاجر من هاجر، وقست قلوبهم عليهم، ولم يجد الآباء في نهاية مشوار حياتهم سوى هذه البيوت مأمنًا وحماية لهم.. "المصريون" التقى العديد من هؤلاء، وقصوا حكايات من فصول جحود ونكران الأبناء، لكننا لن نذكر أسماء، احترامًا لمشاعرهم. بأحد شوارع منطقة العجوزة تتواجد هذه الدار الكبيرة والفارهة، ووفقًا لحديث مشرفة المكان، فإن الدار تضم 12 غرفة، وكل غرفة تستضيف مسنة واحدة على حدة، بكافة أمتعتها واحتياجاتها، أغلب من لجأن إليه ليس بسبب ظروف مالية صعبة أو عوز، ولكن بسبب وحدتهن بعدما تركهن الأبناء. تركت منزلها لراحة نجلها تبلغ من العمر 65 عامًا، لكن لا يبدو على ملامح وجهها كبر السن، بينما كثير من الرضا بالحال والهدوء تستطلعه في النظرة الأولى إليها، كانت تقيم ببولاق الدكرور، ومعها اثنان من الأبناء، وتوفى زوجها، (حسين)، وكان عمره 80 عامًا وعمل طيلة حياته في تجارة الأدوات الكهربائية، وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي، حتى بدأ يخسر؛ فتركها وعاش حياته "بالطول والعرض" بما جمعه من أموال خلال سنوات عمره، وترك الأب الأم وابنيها، بدون أي سند سوى مبلغ بسيط بحسابها في البنك. كان لديها من الإصرار والدأب على أن تربي أولادها، وأن تواصل ما عجزه عن الأب، "عافرت" بالجمعيات والأقساط حتى زوجت ابنتها الصغرى (إيمان)، وبعد ذلك جاء الدور على ابنها الأكبر الذي يعمل محاسبًا بوزارة الكهرباء، وعندما حان الوقت ليتزوج ووجد "بنت الحلال"، لم يتوفر لديه مصاريف شراء الشقة. كانت هذه هي الأزمة التي واجهها، فحزن، وأصاب الأم بحزن أكبر على حاله، لم تقف تتفرج وابنها عاجز عن أن يتزوج ولا ينقصه سوى المسكن، لذلك بادرت وبدون مقدمات في التخلي عن الشقة والتي تتكون من غرفتين وصالة وحمام ومطبخ إلى ابنها، وبالفعل هذا ما تم. بعد الزواج بعام واحد، بدأت زوجة الابن تضيق بها، فطالبت زوجها بسرعة وضعها بإحدى دور المسنين حتى يعيشا ومعهما طفلهما الرضيع في الشقة بمفردهم، ما جعلها تترك لهم كما يقال "الجمل بما حمل" واستقرت بالدار، مشيرة إلى أن الابن يسأل عنها مرة كل شهر يدفع خلالها مصاريف الإقامة بالدار. ذهبت للدار بإرادتها لم تكن تعلم هذه المسنة، التي يبدو على ملامحها تجاوزها السبعين، أن الأبناء عندما تأخذهم الدنيا، ويستقل كل واحد ببيت وأسرة، تجف قلوبهم ويبتعدون عنها، ليصبح البعيد عن العين كما يقولون بعيدًا عن القلب، فحكاية هذه السيدة لا تبدو غريبة فقرأنا عنها كثيرًا وسمعنا عنها مرات متعددة، أربعة أبناء هم ولدان وبنتان كبروا حتى وصلوا لريعان شبابهم، تزوج كل منهم بمن يرغب، وتركوا الأم في منزلها الكبير بمنطقة المهندسين بمفردها لا يسأل عنها أحد، فقط قليل من الجيران والخادمات اللاتي يتبادلن الأدوار يوميًا لزيارتها، وبعض الأقارب الذين شغلتهم الحياة رويدًا رويدًا، ولم يعودوا يسألون عنها، والاطمئنان عليها. لم تجد أمامها سوى أن تترك المنزل، مطالبة أبناءها بتلبية رغبتها الملحة في الذهاب إلى دار مسنين وبإرادتها دون الضغط من أحد حتى تتخلص من الوحدة القاتلة التي عزلتها عن الآخرين بالتدريج. ووفق ما أفادتنا المشرفة، فإن حال هذه السيدة تبدل تمامًا، حيث ملأ وجهها الفرحة وعادت إليها الابتسامة بصحبة رفقائها داخل الدار، بعدما أبدوا لها من محبة، واندماجها بسرعة، وتأقلمت جدًا في المكان، ونعمت بالاستقرار والتعايش معهم، وهي التي كانت تعيش من قبل حالة من الانقطاع والعزلة كادت أن تقضى عليها بعد استقلال أبنائها بحياتهم. هجرها الأبناء فتبناها أصحاب القلوب الطيبة سيدة ثالثة كانت تعيش بأحد الشوارع بمنطقة المنيرة بإمبابة، يتجاوز عمرها 50عامًا، مرت بمآسٍ شديدة من قبل أولادها الذين تركوها من دون أن يقدموا لها حتى المساعدة المادية، عملت في البيوت كمربية وخادمة، وبسبب هذه المهنة ابتعد عنها ولداها، ومنذ أن تزوجا قبل 5 سنوات لم يعودا يسألان عنها، حتى عن طريق الهاتف أو الزيارة وظلت الأم البائسة التي تقطن بغرفتين وحمام بدون مطبخ لا يسأل عنها أحد سوى الجيران من أهل الخير والذين بادروا بالاهتمام بها، وقرروا أن يضعوها بهذه الدار لتلقى اهتمام ورعاية وحماية خاصة، لأنها مصابة بأمراض روماتيزمية جعلتها غير قادرة بشكل كبير على الحركة وتستخدم المشاية الطبية فقط لتتحرك وتساعد نفسها، وهذا الوضع جعلها مطمعًا لغائبي الضمير وتعرضت لمحاولات سرقتها، لكن جيرانها أنقذوها. وكان قدومها إلى الدار، عن طريق جيرانها، الذين أحضروها للمكان وهم من يتولون الإنفاق عليها ماديًا حتى الآن، بينما أهملها ولداها تمامًا، على الرغم من كونهما ميسوري الحال، وأحدهما يعمل في أحد البنوك. لم يبق لهذه السيدة في هذا العمر سوى غرفتها بالدار ورفقائها من المسنات، وجيرانها الكرام أصحاب القلوب الرحيمة بعد أن رفقوا بها من جحود فلذات كبدها. زوجتهن فتركنها للمرض بمنطقة أرض الجمعية بإمبابة، تقع دار "أم هانئ للمسنين"، والتي يجد المسنون فيها واحة للاستقرار والرعاية الكاملة من قبل المشرفين عليها، والمبنى ينقسم لعدة طوابق اثنان للمسنين، والباقي للإدارة والمطبخ وغرف للترفيه. "أم طارق"، (عامًا)، من خلال الحديث مع مشرفات الدار قالت إنها جاءت لظروف خاصة جدًا، بعد وفاة زوجها الذي لم يترك لها سوى المعاش، ثابرت وتحملت مشقة الديون، حتى زوجت بناتها بعدما قامت على رعايتهن، كما تفعل أغلب الأمهات. لكن بطبيعة الحال المؤسف هجرن البنات الأم، ولم يعدن يسألن عنها إلا مرة كل شهر بمساعدة مادية، وتركوها دون رعاية منزلية ولا صحية حتى تدهورت صحتها، وأصيبت بأمراض قلبية وأصبح الوضع في تركها بمفردها شديد الصعوبة، فخاطب جيرانها بناتها من أجل رعاية أمهن، لكنهن لم يجدن أمامهن سوى إيداعها في إحدى دور المسنين. عذراء الدار الحاجة سعاد، (60عامًا)، لم تتزوج، عاشت مع أبيها وأمها حتى رحلا عن الحياة، وتركاها بمفردها، ولا تعرف لها أي أقارب، ولا أحد يسأل عنها سوى الجيران، لتعيش وحيدة دون أنيس أو جليس مثلما يقولون، لكن خالقها لم ينسها، فرزقها بمن ساعدها حتى أصبح لها "معاش شهري" تأكل منه، فضلاً عن أهل الخير الذين راعوا كبر سنها ويوفرون لها يوميًا الطعام والشراب. وكان هناك من يتولى مساعدتها في تنظيف بيتها كل أسبوع، قبل أن يجتمع جيرانها، ويقرروا أن يضعوها بدار المسنين حتى تجد من يهتم بها ويرعاها، وأطلق عليها رفقاؤها الحاجة نظرًا لأمنيتها في زيارة بيت الله الحرام، وهى ممن أكرمهم الله بحفظ العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية لذلك يحبها كل من يتعامل معها ويصفها المشرفين ب "سعاد البركة". الشاب الجنتل أحد المقيمين بالدار، ويبلغ من العمر (66 عامًا)، يطلق عليه رفقاؤه ب "الشاب الجنتل" لأنه يهتم دائمًا بالحفاظ على صحته ومظهره، وجاء إلى الدار برغبته نظرًا لبقائه وحيدًا بعد أن تزوج أبناؤه الثلاثة وتوفت زوجته. ويعيش بمعاشه الشهري، فقد كان موظفًا حكوميًا ولكن خرج إلى المعاش، وكان أبناؤه يحرصون على زيارته شهريًا وبعد ذلك قلت الزيارات، حتى أصبحت شبه سنوية وأصبح الهاتف وسيلة التواصل بينهم وأبيهم، وبين مجالسة الجيران على القهوة أو التمشية بالساعتين يوميًا لم يجد أمامه إلا اللجوء بإرادته إلى دار المسنين ليستأنس بأناس آخرين، ويبقى الهاتف أيضًا هو وسيلة سؤال أبنائه عليه وحجتهم في عدم الزيارة بالانشغال بالظروف المعيشية والأسرية. الابن الوحيد يتخلى عن المسئولية بمنطقة الوراق، تقع دار السلمانية، داخل كفر السالمانية، والتي تتبع جمعية تنمية المجتمع المحلى، وهي مقسمة للرجال والنساء. سنية، (75 عامًا)، حكاياتها تثير الأحزان أيضًا لأن القسوة في قصتها ليست لها حدود من قبل أبنائها، كانت تسكن بالمنوفية وجاءت مع زوجها المتوفى منذ 30 عامًا إلى القاهرة من أجل العمل والبحث عن مصدر للعيش، نظرًا لضيق الحال في الريف وليس لها سوى ولد يدعى محمد، توليا رعايته والإنفاق عليه حتى كبر وتخرج من الجامعة، وتزوج، ولكن أهملهما، وشعرت بالوحدة دون أن تجد من يسأل عنها، خاصة وأنها مصابة بعدد من الأمراض الصدرية والقلبية. كان الابن الذي انشغل بنفسه وأسرته يريد أن يستريح من المسئولية، فقام بوضعها في الدار ولها عام حتى الآن ويصرف عليها ولا يمنع عنها أي شيء يطلب منه من أجل رعايتها. شقيقان يهربان من وحشة الحياة إلى مرافقة المسنين شقيقان متفاوتان في الأعمار أحدهما 63 عامًا والآخر 69عامًا، كانا يقطنان بمنطقة أوسيم، وحكايتهما من أغرب ما تم رصده بين تلك القصص، الأكبر يدعى حامد. يقول: "قضيت سنين عمرى أعمل فى الحدادة بمسكنى فى أوسيم، وكنت أعيش على قوت يومى وما أجنيه من عمل حسب الرزق اليومى، وبمرور السنين وجدت نفسى بدون زوجة ونسيت أننى لم أتزوج، وبلا أحد بين 4 حوائط تمكنت أن أجمع خلال تلك الأعوام أموالاً كثيرة من عملى، ولم أجد من أنفق عليه المال فبقيت بوحدتى وتوفى أبى وأمى، ولم يبق سوى بعض الأقارب الذين لا يعرفون سوى أنفسهم والتكسب من وراء زيارتى، وبمرور الأيام أصيبت بمرض الروماتيزم وأصبحت غير قادر على العمل فتركت البيت وذهبت إلى دار المسنين بإرادتى". أما الأخ الصغر محمد، الذى كان من نصيبه التعليم المرحلة الابتدائية فقط، وبعد وفاة الأبوين لم يجد عملاً مناسبًا له سوى الميكانيكا، لأنه كان يعمل منذ صغره بإحدى الورش، ففتح ورشة خاصة به، لكنها كانت لا تدخل له من المال إلا القليل، نظرًا لقلة خبرته، فضلاً عن أنه لم يستعن بآخرين لمساعدته داخلها. ضطر بعد ذلك لغلق ورشته وعمل فى بيع وجمع الخردة، والتى كانت سبب فى عجز إحدى يديه، بعد أن وقع عليه جزء من مخزن كان يعمل به، فالتزم الفراش وأصبح يعيش من مساعدة الناس وأخيه، لكن بعد ما أصاب أخيه ما أصابه من مرض، لجأ معه إلى دار المسنين هربًا من وحشة الوحدة ويصرف على ذاته من أموال جمعها خلال فترة عمله بالخردة وتصليح السيارات.