الأهالى يفترشون الشوارع فى عز البرد.. «هنعمل إيه المهم يخفوا» «أبوالريش».. الحمامات بفلوس.. ومستشفى 57».. الانتظار إجبارى بالخارج يفترش العشرات من أسر المرضى، الطريق العام أمام المستشفيات، متحملين برد الشتاء، وحرارة الصيف، فضلاً عن قسوة الاغتراب، وقطع مئات الكيلومترات من أجل العلاج بالقاهرة، آلام ومعاناة لا تنتهي، فالأهالي يعانون الأمرين برفقة مرضاهم، بحثًا عن بادرة أمل في الشفاء، والتخلص من أوجاعهم، ربما لفتت انتباهك هؤلاء أمام إحدى المستشفيات الكبرى، لكن المؤكد أنك لم تطلع على تفاصيل معاناتهم، ولم تخبر أحوالهم، وفي التفاصيل تتضح فصول المأساة، وتظهر تفاصيل الصورة الحزينة عن قرب. مع غروب الشمس كل يوم، في المنطقة المحيطة بمستشفى الأطفال بالدمرداش التابع لكلية الطب جامعة عين شمس، وفي تمام السادسة مساء، وتغلق أبواب الزيارة، ويغادر معظم العمال والموظفين، وتصاحب ذلك خطوات متثاقلة لأهالي الأطفال المنومين على أسرة المرض داخل المستشفى، يجمع الأهالي متعلقاتهم ويغادرون حجرات المرضى بأجسادهم وقلوبهم تظل معلقة بفلذات أكبادهم. الخوف والقلق يتشبث بقلوب هؤلاء الذين جاءوا من كل محافظات مصر، إذا تحركت خطوات قليلة في محيط المستشفى ستصادف بعضهم وقد افترش مكانًا منزويًا للمبيت بقرب الأحباب، في حين يحتمي البعض الآخر منهم داخل مبنى متهدم من بعض جوانبه بجوار المستشفى لعلهم يجدون بعضًا من الدفء المفقود. يقول والد أحد الأطفال المحجوزين بالمستشفى: "الناس بتيجى تبات فى مبنى الإدارة الهندسية اللى جنب مستشفى أطفال الدمرداش، والمبنى معظمه متهدم ويتم تجديده، والناس اللى جاية من الصعيد أو الأرياف بتنام فيه.. والمستشفى لا يسمح غير بمرافق واحد مع الطفل فتركت والدته معه". وقالت فاطمة، وهي أم لطفلة محتجزة بالمستشفى: "هو دور برد قلب بحمى ونزلة رئوية وسخونية.. بنتى حياة عمرها أربع سنوات، وأنا مضطرة للتواجد بالقرب منها، لأن إدارة المستشفى رفضت وجودي معها كمرافق منعًا لنقل العدوى". وتابعت: "جيت على موعد الزيارة، غيرت لها هدومها واطمنت عليها". طاهر أب بسيط الحال يحمل نجله الصغير إبراهيم، 4سنوات، إلى مستشفى الدمرداش في محاولة لإنقاذه من مصير أخويه اللذين توفيا بنفس الأعراض، لا يفارق نجله يحمله على يديه غير عابئ بالفيروس المجهول الذي يطارد أسرته. يأخذ الأطباء إبراهيم إلى العناية المركزة ومركز علاج الأمراض الغامضة، وليس أمام الأب إلا أن يجلس وحيدًا أمام أبواب المستشفى ليلاً ونهارًا، وبالرغم من برودة الجو إلا أنه لا يستطيع ترك نجله والعودة إلى أشمون، فلا يجد أمامه حلًا إلا أن يفترش الطريق أمام باب المستشفى فى انتظار دعوة الأطباء له لرؤية ابنه. يقول طاهر: "أعمل إيه مش مهم أنام على الأرض فى الشارع بس ابنى يخف". وأضاف: "أنا كان عندى 3 أولاد أصيبوا بفيروس غامض 2 منهم ماتوا من شهر وهما آدهم 11 سنة مات بعد الإصابة ب3 أيام، ومروان عمره سنة ونصف مات بعد الإصابة بأسبوع، ابنى الثالث إبراهيم 4 سنوات فى مستشفى الدمرداش محجوز من 4 أيام، عنده وجع فى بطنه وسخونية"، وذكر أن طبيبًا فى مستشفى أشمون أكد له أن ابنه لديه فيروس خطير وغامض. ويقول الدكتور أيمن صالح، مدير مستشفيات جامعة عين شمس، إن المستشفيات تسمح بمرافق واحد مع الطفل وهى الأم فقط؛ لأن المستشفى لا يتسع لاستقبال الأهل والأقارب، وتابع: "دى مستشفى مش فندق"، مؤكدًا أن دور المستشفى هو علاج الأطفال فقط ولا يوجد مستشفى فى العالم يسمح بأكثر من مرافق. "أبوالريش".. الحمام بالفلوس يعد مستشفى مصر أبوالريش من أقدم مستشفيات الأطفال في القاهرة، فقد تم إنشاؤه في عام 1928، يلجأ إليه المصريون من جميع المحافظات لعلاج أطفالهم، من ذوي الحالات الطارئة، وهو متخصص في علاج الأطفال في المرحلة من سن يوم حتى 15 سنة. "حتى الحمام بالفلوس مش كفاية نومتنا فى الشارع فى عز البرد لو حد فينا احتاج الحمام، العاملة تقولنا بالفلوس"، هكذا فاجأتنا والدة مروة أيمن (10 سنوات)، المريضة بنقص في صفائح الدم. وتسرد الأم معاناة ابنتها مع مرضها، قائلة: "بنتى تعبت من وهى فى 2 ابتدائى وهى دلوقتى فى سنة خامسة، العلاج مش موجود فى أى مكان بره، وحتى لو موجود مش هقدر اشتريه، باجى من قليوب أنا وأبوها كل أسبوع أو زى ما الدكتور يحدد لنا، ولأننا مش من هنا مافيش قدامنا غير الشارع أمام المستشفى ننام فيه، برد أو حر مش بتفرق، أنا بسيب أولادى الاتنين منار ولؤى مع أختى وآجى علشان مروة ربنا يشفيها يا رب". تجاورها سيدة أخرى أم لطفل مريض بالفشل الكلوي، تبدو عليها علامات الحزن والألم، وهي تعبر عن آلامها وأوجاعها، قائلة ل"المصريون": "الحمد لله على كل حال أنا دايخة مع ابني ربنا يشفيه من وهو عنده سنة ودلوقتي عنده 12 سنة، فوجئت به وهو عنده سنة بتعب غريب، عملت تحاليل وإشاعات طلع عنده فشل كلوى ولأن الأيد قصيرة والعين بصيرة ماكنش فى حل غير أبوالريش، ومن ساعتها وأنا رايحة جاية بيه، عندى 3 أولاد غيره، مى فى 6 ابتدائى ومروان فى 4 ابتدائى ومنار فى أولى ابتدائي". وتكمل سرد مأساتها، قائلة: "بقالى 11 سنة قدام أبوالريش علشان ميعاد الجلسات ولو هيبات علشان التحاليل، بنتى منار لما ولدتها كانوا بيجيبوهالى أرضعها ويخدوها تانى على البيت، هنعمل إيه ربنا يشفى ابنى ويشفى كل مريض يا رب". وتنهى كلمتها قائلة: "دلوقتى الحل الأخير أن حد يتبرع لابنى بكلية أنا وأبوه فصيلة دمنا مش نافعة وغصب عننا بيعنا أرضنا علشان نعرف ندى فلوس للمتبرع اللى عايز 100 ألف جنيه ولسه مصاريف العلاج والمستشفى والدكتور، ربنا يقوينا". "أبوالريش اليابانى".. افتراش الطريق هو الحل لن تحتمل عيناك رؤية المشهد أما مستشفى أبوالريش الياباني، فأمام الباب الرئيسى يوجد العديد من الأشخاص يفترشون الطريق ببطانيات مشتركة، لا ترى إلا أجسادًا ملفوفة على الأرض أمامك. أربعة أفراد من أسرة واحدة يفترشون الأرض، وثلاثة أفراد من أسرة ثانية يتقاسمون غطاءً واحدًا. عشرات الحالات في الانتظار حتى يحين ميعاد الزيارة لرؤية المرضى والاطمئنان عليهم. ويعد مستشفى أبوالريش التخصصى، أو ما يطلق عليه "أبوالريش الياباني" هو المستشفى الوحيد الذى يخدم آلاف المرضى من الأطفال فى كل التخصصات، وسمى بذلك لأنه بني بأموال منحة من اليابان لكلية طب قصر العينى جامعة القاهرة، وقد أنشئ عام 1983 ويتكون من 6 أدوار تسع ل450 سريرًا، ويقدم خدمات مجانية ل500 ألف طفل فى العام فى مجالات القلب والجراحة العامة، والرمد، والباطنة، والكلى وغيرها من التخصصات الأخرى. ويعد مستشفى "أبوالريش" من أكبر مستشفيات الأطفال فى الشرق الأوسط، وتأتى إليه حالات من بعض الدول العربية. "مستشفى 57357" الانتظار إجبارى يعد مستشفى 57357 أول مستشفى لعلاج أطفال السرطان فى الشرق الأوسط، ولا يلجأ إليه الأطفال من سكان القاهرة فقط، بل من جميع محافظات مصر وأحيانًا من بعض الدول العربية. الحزن والألم يخيم على الوجوه أمام أبواب المستشفى، أطفال بالداخل أنهك المرض أجسادهم، يقطعون رحلة علاج تحتاج إلى صبر ومثابرة، إذ ليس من المتوقع شفاؤهم ببساطة، أو ربما أمامهم مرحلة علاج قد تستمر بالسنوات. العديد من السيارات تتوقف أمام باب المستشفى تختلف ما بين سيارة خاصة وأخرى أجرة ينزل منها أطفال يبدو على ملامحهم الألم ووجوه أخرى يبدو على وجوهها الأمل، آملين من الله أن يمن عليهم بالشفاء بعد طول معاناة وألم. تقول صباح: "حفيدي تعب بعد ما اتولد ب3 شهور لقينا تحت عينيه أزرق وعينيه حمرا، لفينا على دكاترة الأطفال ودوخنا مستشفى المنيرة، ومنها على أبوالريش وهناك عرفوا حالته سرطان على الكلى وقالوا ودوه 57، بقالنا 6 شهور دايخين بيه، ولما جاله إسهال وترجيع قالوا لازم الكيماوى، بالرغم من أن عنده 9 شهور بس هنعمل إيه، أمه قاعدة بيه جوه وأنا خرجونى بس مش همشى مستنياها نبدل مع بعض هى مابتنامش ومش مهم أنا مستحملة قاعدة فى البرد قدام المستشفى ما أقدرش أسيب بنتى وأمشي، هنعمل إيه ربنا يشفيه ويشفى كل مريض يا رب". عرفت من لكنتها الغريبة أنها ليست من القاهرة، وصدق حدسى فهى من المنيا، جاءت مع بعض أفراد أسرتها برفقة طفلة مريضة عمرها 22 يومًا فقط مصابة بسرطان في الكلى، هى ابنة أختها، تقول إن الأطباء اكتشفوا حالتها بعد ولادتها بنصف ساعة فكان يبدو بعض الخلل فى أجهزتها الحيوية. وأضافت ل"المصريون": "بقالنا هنا 22 يوم من ساعة ما البنت اتولدت وإحنا بيها هنا وأمها معاها جوه وإحنا مستنيينها بره، وفى ميعاد الزيارة بندخلها، بنبات فى الشارع فى عز التلج هنعمل إيه أدى الله وأدى حكمته، ربنا يشفيها ويشفى كل مريض يا رب". وأكثر ما آلمنى من الحالات الموجودة أمام المستشفى هى أم تبكى وترفض الدخول إلى أبنها ذى الست سنوات، الذى يعانى من ورم خبيث على رئته، فهى ترفض الدخول إليه إلا بعد أن تهدأ حتى لا تؤثر على نفسيته، لأنها لا تتحمل تعبه وألمه الذى يوجع قلبها كما أخبرتنى. مستشفى الطوارئ طريق السخنة - القاهرة قالت لي فتاة، طلبت عدم نشر اسمها، إن بعد حادثة تعرض لها قريبًا لها على طريق الموت "الدائري" وتحديدًا فى القطامية وتم حجزه فى إحدى مستشفيات الطوارئ على الطريق، حاولت أسرته الوصول إليه لكن إدارة المستشفى رفضت، وكان وقت الزيارة محددًا بمواعيد معينة، ولأن المستشفى بعيد فلم يكن أمامنا إلا المبيت أمام باب المستشفى في مكان غير آمن من كل شيء؛ فالكلاب الضالة تحيط بالمنطقة وأحيانًا الخارجون عن القانون، ولم يكن أمامنا إلا أن نتحمل حتى يخرج من المستشفى.