شهدت الفترة التي أعقبت حكم تورجوت أوزال ظاهرة التضييق على التيار الإسلامي ، ومحاصرة رموزه ، وكان المدعي العام في منظومة عدالة معروف خضوعها لتأثير الجنرالات قد طالب بمعاقبة النجم السياسي الجديد ، الذي أبهر الجميع عندما رأس بلدية مدينة "اسطنبول" عروس تركيا وعاصمتها الحقيقية ، ذلك القادم من ظل حزب "الرفاه" الإسلامي ، رجب طيب أردوغان ، على خلفية خطاب سياسي حماسي أنشد فيه أبياتا من قصيدة شعرية قديمة تتغزل في مآذن المساجد وقبابها ، وهو ما اعتبره المدعي العام "النائب العام" تهديدا للنظام العلماني في الدولة ، وانتهى الأمر بسجن أردوغان عدة أشهر ، والأخطر وهو المقصود من محاكمته فرض حظر سياسي عليه يمنعه من الترشح لأي انتخابات أو قيادة عمل سياسي ، وفي إطار التصعيد والمحاصرة للتيار الإسلامي ، وفي يونيو من العام 2001 أصدرت المحكمة الدستورية العليا في تركيا حكما بحل حزب الفضيلة الإسلامي الذي يرأسه البروفسور نجم الدين أربكان ، والذي كان "أردوغان" يمثل أحد أهم أركانه ويمثل التيار التجديدي داخله . فور حل حزب الفضيلة الإسلامي ، تنادت المجموعة الشابة التي تقود تيار التجديد داخل الحزب إلى ضرورة الخروج من إطار النمط السياسي التقليدي الذي كان يمثله "نجم الدين أربكان" ، وأن تركيا بحاجة إلى حزب وسطي يعبر عن تنوعها ويحافظ على النظام العلماني ويدعم قيم العدالة والحريات العامة ويحترم المقومات الروحية للمجتمع أيضا ، وشكل حوالي 63 قيادة من الحزب السابق مؤتمرا تأسيسيا لحزب جديد أسموه "حزب العدالة والتنمية" وأطلق الحزب في أغسطس من العام 2002 ، وضم في قياداته أطيافا من النخبة التركية الجادة ، من تيارات مختلفة ، وليسوا فقط من الإسلاميين ، وحرص على الدفع بالمرأة في مواقع جديدة ، وكان ملاحظا أن مؤسسي الحزب كان بينهم ممثلة تركية معروفة ، ومطربة أخرى ، كما انضم للحزب طاقات شبابية خاصة من الذين تلقوا تعليمهم الأكاديمي العالي في أوربا وأمريكا ، إضافة إلى عدد كبير من النشطاء السياسيين الجدد من أبناء الطبقة الوسطى وكثير من المنحدرين من شريحة أكثر فقرا في المجتمع . لم يقدم الحزب الجديد أية شعارات دينية ، ولم يتقدم للشعب بوصفه حزبا إسلاميا ، أو حتى منتميا إلى التيار الإسلامي ، وإنما تقدم بوصفه حزبا محافظا معتدلا ، وإن كان كثير من مؤسسيه ينحدرون من الحالة الإسلامية السابق فكان المفهوم بدون إعلان أنه حزب يمثل التيار الإسلامي السياسي المعتدل والمنفتح ، وجاء شعار المؤتمر التأسيسي لحزب العدالة والتنمية في 14 آب 2001 تحت عنوان (العمل من اجل كل تركيا واستقطاب مختلف شرائح المجتمع) ، ليعلن أنه حزب يحترم الحريات الدينية والفكرية ومنفتح على العالم ويبني سياساته على التسامح والحوار ، وأنه يحترتم علمانية الدولة والمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية ، وقدم فهما جديدا للعلمانية يجعلها داعمة للحريات العامة والحياد الثقافي والديني للدولة وللحق في الاختيار وليست أداة قمع أيديولوجي ، كما يؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ، وأكد الحزب في أدبياته أنه حزب سياسي يحترم القوانين التركية، ويعمل للحفاظ على الأمة التركية ككتلة واحدة، من خلال صيانة التنوع الديني والثقافي والفكري للمواطنين، ورفض كل أشكال التمييز، وأنه يسعى للدفاع عن احترام جميع الحقوق السياسية للمواطنين في إطار نظام ديمقراطي تعددي، يحترم حرية التعبير ، وأنه يعطي أهمية خاصة للبعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ، ويؤمن بأن الإنسان هو ملهم أي نهضة اقتصادية ، ويرى أن الخلل في عدالة توزيع الدخل والبطالة أهم مشكلة اقتصادية واجتماعية ، كما يؤكد سعيه للحفاظ على قيم الأسرة والشباب من خلال دعم السياسات التي تخدم هذا الهدف، ودعم البرامج التعليمية والتدريبية. كانت المرحلة التي أعقبت "تورجوت أوزال" قد أعادت ظاهرة الحكومات الائتلافية الضعيفة ، بسبب عدم قدرة أي حزب على انتزاع غالبية برلمانية تسمح له بتشكيل الحكومة منفردا ، فكانت الحكومات أشبه بالمحاصصة السياسية الاضطرارية التي تتعارض فيها المصالح والرؤى وأحيانا الايديولوجية نفسها ، مما أضعف الدولة وأربك الاقتصاد ، مما اضطر رئيس الوزراء "بولند أجاويد" إلى الدعوة إلى انتخابات عامة في 2002 ، وقرر الحزب الوليد الذي يقوده أردوغان وصديقه "عبد الله جول" خوض الانتخابات ، ولكن بقي أردوغان في الظل لأنه كان يخضع لحكم العزل السياسي مدة خمس سنوات ، كما حرمه المدعي العام من الترشح للانتخابات بموجب هذا العزل ، كما أجبره أيضا على الاستقالة من رئاسة الحزب فاستقال ، وتقدم الحزب للانتخابات برئاسة "عبد الله غول" ، وأكثر من ذلك قدم المدعي العام طلبا للمحكمة العليا يطالب بحظر الحزب الجديد قبل عشرة أيام من موعد الانتخابات البرلمانية، رغم أنه لم يمض على تأسيسه أشهر قليلة ، وكان هدف الدولة العميقة التي يقودها الجنرالات من هذا التحرك هو حرمان الحزب من المشاركة خشية أن يفوز في الانتخابات . وكانت المفاجأة أن تمكن الحزب الوليد من تحقيق فوز منقطع النظير بحصوله على نسبة (34,29%) من أصوات الناخبين ،ليفوز ب363 مقعدا من أصل 550 ، حيث يتيح النظام الانتخابي توزيع مقاعد الأحزاب التي لم تحقق النسبة القانونية لدخول البرلمان على أكبر الأحزاب الفائزة وبذلك حاز "حزب العدالة والتنمية" على ثلثي الأصوات وأصبح بإمكانه تشكيل الحكومة بمفرده في البرلمان ، ثم بعد عامين فقط من تلك "الملحمة السياسية" ، وفي العام 2004 نجح الحزب في الفوز بالانتخابات البلدية أيضا ، والتي تعتبر لا تقل خطورة وأهمية عن الانتخابات البرلمانية ، بحصوله على نسبة 41.67 % من أصوات الناخبين ويفوز برئاسة 58 بلدية من أصل 81 هي عدد المحافظات التركية، إضافة الى أغلبية البلديات داخل المحافظات.، ووضح أن الشعب التركي أعاد منح ثقته للقوة السياسية الوسطية التي تحترم "هويته" وتقدم رؤية جديدة للاقتصاد والسياسة والحريات العامة ، لتدخل تركيا حقبة جديدة من تاريخها السياسي والاجتماعي ، رمزها حزب "العدالة والتنمية" . * "الأردوغانية" .. هل تلهم النضال السياسي في العالم العربي ؟ (1/13) * "الأردوغانية".. مصطفى كمال أتاتورك وأزمة الهوية (2/13) * "الأردوغانية"..كيف بدأ مسار إصلاح أزمة الهوية في تركيا ؟(3/13) * "الأردوغانية"..العسكر يربكون الدولة من جديد(4/13) * "الأردوغانية" .. كيف جنى العسكر على الدولة التركية (5/13) * "الأردوغانية" .. كيف أنهى العسكر أول حزب إسلامي (6/13) [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1