على الرغم من انشغال الرأي العام العربي والعالمي أمس بأحداث سوريا، والمخاوف من اندلاع حرب إسرائيلية إيرانية على الأراضي السورية، بعد الضربات التي وجهتها "إسرائيل" لقواعد عسكرية إيرانية هناك، إلا أن حدثًا عربيًا مهما شغل مساحة ليست بالقليلة من الإعلام الدولي، وهو الاعتذار الرسمي الذي قدمته الحكومة البريطانية للقيادي الإسلامي الليبي عبد الحكيم بلحاج، أحد أبرز قيادات ثورة فبراير في ليبيا، وبطل معركة تحرير العاصمة طرابلس من فلول القذافي وميليشياته، حيث فر بعدها القذافي إلى سرت حيث لقي حتفه في المشهد التاريخي المعروف بعد محاولته الاختباء في مواسير الصرف الصحي. عبد الحكيم بلحاج، كان أحد معارضي القذافي، والذي رأي أن القذافي أغلق كل وسائل التغيير السلمي، وقتل المعتقلين في السجون وروع الشعب الليبي ونشر الفساد والإذلال والرعب بصورة لم يعرفها الليبيون حتى أيام الاحتلال الإيطالي، فقرر تشكيل فصيل مسلح لمواجهة القذافي ، غير أنها كانت محاولة عاطفية ، انتهت للفشل بعد حشد القذافي لسلاحه في المنطقة الشرقية من ليبيا فأنهى المغامرة، وخرج بلحاج من ليبيا إلى شرق آسيا مع أسرته متنقلا بين أكثر من بلد ، هاربًا من مطاردات القذافي، وفي ماليزيا حاول طلب اللجوء السياسي في بريطانيا ، فتلقفت الخيط المخابرات البريطانية، وأبلغت الطرف الأمريكي ، فتم التنسيق بين الجانبين وتتبع حركته، حيث تم اختطاف عبد الحكيم بلحاج وزوجته في تايلاند ، وإخضاعهما للتحقيق ثم تم شحنهما إلى حتفهما المؤكد في ليبيا، فتم تسليم بلحاج وزوجته لجلادهما القذافي، في واقعة يندى لها الجبين ، وتصم البلدين، بريطانيا وأمريكا بكل ما تتخيله من الخسة والنذالة . من المطار إلى المعتقل مباشرة، دخل بلحاج وزوجته معتقلات القذافي، وكانت زوجته حاملا في شهرها الخامس، فأفرجوا عنها قبل شهر من الولادة ، وبقي بلحاج سبع سنوات حكى فيها مشاهد التعذيب المروع الذي تعرض له ، والأسوأ من ذلك أنه قال إن المخابرات البريطانية كانت تستجوبه أحيانا في سجون القذافي ، وهو ما اعترفت به بريطانيا ، وتم الإفراج عن بلحاج في 2010 بعد وساطات من شخصيات دينية مرموقة ، وظل ما جرى ضمن أسرار الدول، حتى نجح ثوار ليبيا في اسقاط القذافي في ثورة فبراير واستولوا على أرشيف المخابرات الليبية في العاصمة طرابلس، وأمسك عبد الحكيم بملفه ، فاكتشف الفضيحة المذهلة ، وقرر أن يقاضي الحكومة البريطانية، حاولت بريطانيا المراوغة بعد أن صدمتها الفضيحة وحجم المعلومات ، فعرضت على بلحاج ملايين الجنيهات تعويضا من أجل تسوية الملف وعدم وصوله للمحكمة ، رفض بلحاج، وأصر إن كانت هناك تسوية أن تقدم له الحكومة البريطانية اعتذارًا رسميًا، رفضت بريطانيا وراوغت الحكومة محاولة عدم وصول ملفه إلى القضاء، لكن المحاكم البريطانية قبلت العام الماضي القضية، مما اضطر الحكومة إلى تكثيف التفاوض من جديد، والذي انتهى إلى القبول بطلب بلحاج، وكان أمس يومًا تاريخيًا في مجلس العموم البريطاني، عندما وقف المدعي العام ليعلن توصل الحكومة إلى تسوية مع القيادي الليبي عبد الحكيم بلحاج، يقضي بدفع نصف مليون جنيه تعويضًا لزوجته، وتقديم اعتذار رسمي لهما، وتمت تلاوة الاعتذار الذي وقعته رئيسة الوزراء تيريزا ماي أمام البرلمان، كما قام السفير البريطاني في تركيا باستقبال بلحاج وتسلميه النسخة الرسمية من الاعتذار، والذي كانت نصوصه مترعة بالاعتراف بالذنب والندم على ما جرى وأن ما تورطت فيه المخابرات البريطانية لم يكن يليق أن يحدث، إلى آخر النص المنشور حاليا . الحكومة البريطانية التي قامت بالفعلة الشنعاء كان يرأسها وقتها "توني بلير" صاحب السمعة العالمية في السمسرة ، والمستشار لدى عدد من الحكومات العربية بعد ذلك ، وما حدث في تلك الواقعة كشف عن المأساة التي تعيشها شعوب العالم الثالث ، عندما تتواطأ دول عريقة في الديمقراطية بحجم بريطانيا، في التنسيق مع طاغية مجرم فاسد ودموي مثل معمر القذافي وتسلمه معارضيه ليتشفى بهم وينكل بهم وبأعراضهم وينزل بهم سوء العذاب، دون أن يطرف لهم جفن من الخجل أو الإحساس بالآدمية، ولولا استيلاء ثوار ليبيا على أرشيف المخابرات لما عرفوا تلك الفضيحة، وربما فضائح أخرى قد يكشف عنها مستقبلا . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1