حظي التعليم باعتباره حقاً أساسياً وأصيلاً لأبناء الشعب وركناً في بناء الدولة هويتها ونهضتها حظي باهتمام الدولة منذ عقود طويلة وحيط بسياج منيعة من الحماية من خلال النصوص الدستورية القاطعة بإلزاميته، وبكفالة الدولة له وتفعيله واتاحته بالتساوي بين أبناء الشعب وبالمجان، ونصت دساتير مصر المتعاقبة ومنذ صدور دستور الحريات المصري في عام 1923م على مبدأ هام يكفل المساواة أمام القانون في الحقوق والتكاليف والاعباء العامة بلا خرق أو تمييز، ورغم تعاقب الأنظمة السياسية المختلفة بما تعتنقه من فلسفات وأفكار متغيرة حرص المشرع الدستوري على ترسيخ ذلك الحق في كافة دساتير مصر خلال تلك الفترات، وكانت الصراعات دائماً بين الحكام والمحكومين تدور حول تحقيق وتفعيل ذلك المبدأ وكفالة عدم الافتئات على مستهدفاته، ورغم ذلك كان الأمر لا يخل من فروقات في تطبيق المبدأ بين مدن مصر الكبرى وقراها في صعيد مصر وفي الأرياف من حيث جودة المنشآت والخدمات فيما يخص الخدمات العامة ولاسيما خدمات قطاع التعليم. وتعود بداية تجربة مدارس اللغات في مصر إلى عصر محمد علي عندما استعان بالخبرات الغربية لاسيما الإيطالية والفرنسية والانجليزية في تطوير نظم التعليم في مصر بإنشاء مدارس اللغات واستجلب لها الإدارة والمعلمين من تلك البلدان لقيادة العمل بها، وقد انتشرت تلك المدارس بفعل الاقبال المتنامي عليها وهو ما دعا إلى التدخل الحكومي عقب عام 1952م واخضاعها للإدارة المصرية المباشرة. وتحت ضغط الطلب والاقبال المتزايد على تلك المدارس تم إقرار انشاء مدارس اللغات التجريبية بقرار مجلس الوزراء في 25/7/1978م والتي كانت بداياتها قوية حيث الكثافة المعقولة والجودة الاكاديمية، وتوسعت في بعض المناطق ونافست مدارس اللغات ذات الرسوم العالية نسبياً والتي تفوق في عبء تحملها قدرة كثير من الأسر المصرية، وما لبثت تلك المدارس حتى تسللت لها أمراض التعليم العام من ارتفاع الكثافة وضيق الأبنية وضعف المدرس، فتم استحداث نسخة جديدة برسوم أعلى تحت مسمى مدارس المستقبل النموذجية، وكانت لها نفس البداية القوية ثم آلت إلى ما آلت إليه سابقتها، لكن في كل الأحوال ظلت الثقة في هذا النوع من المدارس تفوق الثقة في المدارس الحكومية التي يحتضر دورها وينحسر تحت وطأة اعتماد الطلاب على الدروس الخصوصية. ومؤخراً جاءت قرارات وزارة التربية والتعليم وفي صحوة مفاجئة بالعزم على إلغاء وتصفية وجود المدارس التجريبية وادماجها في منظومة التعليم العام بدعوى تعريب العملية التعليمية حرصاً على اللغة العربية والحيلولة دون ذوبانها بفعل اعتماد تلك المدارس على تدريس بعض موادها باللغات الأجنبية. وقد ارتاب كثير ممن لجئوا إلى الحاق أبنائهم بتلك المدارس بالخطوة الحكومية لعدة أسباب منها وأهمها ما يلي: قناعة كثير من قطاعات الشعب أن كثير من وزارات الدولة وجهات الإدارة ومنها وزارة التعليم تسير في وادٍ ومصالح الناس في وادٍ أخر موازٍ وأن تدخل الدولة ليس للتطوير والتحسين بل لفرض مزيد من الأعباء والانقضاض على ما تبقى من مجانية التعليم المكفول دستورياً. أن بوصلة جهود الدولة للتطوير ينبغي أن تتوجه إلى اصلاح التعليم العام (الحكومي) باعتباره الأصل الذي يستحوذ على النسبة الأكبر من المدارس ويغطي مساحة جغرافية هي الأوسع على مستوى القطر المصري وهو ملاذ السواد الأعظم من أبناء الشعب إذ تتجاوز نسبته ال (80%) في حين لا تتعدي نسبة المدارس التجريبية (2%) ولإصلاحه(التعليم العام) يجب أن تشكل لجان طوارئ وتستنفر كل الطاقات الرسمية والشعبية لتطويره وانتشاله من غرق الفشل والفساد وسوء المخرجات، ولا تقتصر الجهود على تطوير المناهج والمنشآت التعليمية فحسب بل ينبغي أن يمتد إلى الاهتمام بشأن المعلم من كافة النواحي العلمية المهارية والنفسية والمادية. أن كل دول العالم المتمدينة عندما ترغب في استحداث تغيير إصلاحي يمس بشكل مباشر جوانب حياتية للناس يتم قبل المعالجة التشريعية واصدار القرارات التنظيمية؛ فتح حوار مجتمعي شامل تشارك فيه بيوت الخبرة والمجالس النيابية المنتخبة ومنظمات المجتمع المدني ويتم الخلوص(خلال فترة زمنية محددة) إلى حلول تطور العمل وتعالج الخلل وتقوّم الأداء مع تحديد فترة انتقالية لتصفية المراكز القانونية القائمة منعاً للضرر والاضطراب قبل الشروع في اتخاذ قرارات قد تكون ذات تأثيرات سلبية. أن اصدار قرارات فوقية عنترية مصحوبة بالتهديد والوعيد والاتهامات لكل من ينتقد أو يعارض توجه الوزارة يثير الريبة، لأنه قد ينم عن وجود أهداف خفية تنحرف بالأهداف المعلنة عن مقتضيات ومبتغيات المصلحة العامة التي تعد مناط ومتكأ كل قرار إداري عام يعالج مشكلات عامة تمس بشكل مباشر مصالح قطاع لا يستهان به من أبناء الشعب. أن معالجة الخلل والقصور الحاصل داخل تجربة المدارس التجريبية وتطوير العمل بها أقل كلفة وأفضل نتيجة من الانقضاض عليها ووأدها بذرائع غير مقنعة، لأنه لو كان الهدف حفظ اللغة العربية فالأولى معالجة ذلك داخل مدارس اللغات العالمية التي لا تسمع للغة العربية فيها ركزا، كما أن ضعف مستوى اللغة العربية سبة ونقيصة تطارد خريجي الأزهر والمدارس الحكومية على حد سواء، بل يمتد لخريجي الجامعات، ولم نشهد خطط حكومية نشطة تعالج ذلك الخلل المتفاقم، فهل يعد ذلك مبرراً لهدم المعبد على من فيه ؟! ولو كانت التجربة تمثل خطراً من أي نوع فلماذا تركت طيلة الفترات السابقة بلا معالجات؟! وأخيراً إن استمرار الضغوط على المواطن وتحميله أعباء جديدة تمس مستقبل أبنائه مع زيادة كلفة المعيشة وتأكل مدخراته (إن وجدت) بفعل الزيادات المضطردة في الأسعار دون مواكبة ذلك بزيادة في الدخل؛ لهو أمر خطير يتعين التحسب لأثاره، كما يتعين طرح مبادرات التطوير الشامل للعملية التعليمة لحوار مجتمعي شامل يشارك فيه ذخيرة أبناء مصر من الخبراء والعلماء المخلصين لوضع حلول واقعية لمشكلات التعليم دون استنساخ تجارب أخرى قد لا تصلح حلولاً مشكلاتنا في ظل وجود طلاب لا يجدون في مدارسهم مقاعد دراسية يجلسون عليها ويفترشون الأرض بما يجعل الحديث عن جهاز (تابلت) لكل طالب نوع من الطروحات غير الواقعية. والله الموفق إلى سواء السبيل،،،