رحل عن عالمنا المفكر الإسلامي الكبير محمد يوسف عدس بعد رحلة قضاها في دروب الفكر والأدب، نيفت على النصف قرن، ولأنه أمة وحده فقد شارك أمته همومها وأتراحها وأخذت من وقته الكثير، ولم يبتغ من وراء ذلك مقابلاً كما فعل غيره ممن يتاجرون بالآم أمتهم، ويحصلون على الأموال الوفيرة من خزينة الدولة الفقيرة، كما يذهبون في رحلات طويلة تستنزف الأموال الكثيرة ..مات محمد يوسف عدس في منفاه الاختيارى الذي ارتضاه لنفسه منذ 45 عاماً في بلد يبعد عنمصر آلاف الأميال.. "أستراليا" التي عندما تهبط على أرضها تشعر وكأنك انتقلت من كوكب الأرض إلى كوكب آخر، ففي النصف الجنوبي من الكرة الأرضية كل شيء معكوس أو مقلوب، الصيف هناك شتاء والليل نهار، والقبلة (بكسر القاف) تتوجه إليها نحو الشمال بدلاً نحو الجنوب، والشمس والقمر والنحوم تطل عليك من مواقع مختلفة، ناهيك عن اختلافات هائلة في الطبيعة والمناخ وأنماط الحياة واهتمامات الناس والصحافة والثقافة، حتي مذاق الأطعمة. وتحتاج الساعة البيولوجية كما يحتاج المزاج العقلي والنفسي فترة من الوقت لاستيعاب كل هذه المتغيرات. وقد ولد محمد يوسف عدس سنة 1934 فى قرية "بهوت" بمحافظة الدقهلية، وحفظ أجزاء من القرآن فى كُتّاب القرية، وأمضى ثلاث سنوات فى المدرسة الأولية، ثم انتقل إلى مدينة الزقازيق لاستكمال تعليمه فى المدرسة الابتدائية حيث تخرج منها سنة 1948، ثم التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية لمدة عام، ثم انتقل إلى مدينة المنصورة، ليكمل تعليمه فى مدرسة الملك الكامل الثانوية حيث حصل على شهادة الثقافة العامة سنة 1952، ثم حصل على الثانوية العامة من مدرسة المنصورة الثانوية سنة 1953، والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، قسم الدراسات الفلسفية وعلم النفس؛ وتخرج من الجامعة سنة 1957، وعمل بالتربية والتعليم حيث عُيّن فى مدرسة طوخ الثانوية بمحافظة القليوبية سنة 1958، حيث قام بإدارة المكتبة وتطويرها، وألحق بها مركزا ثقافيا للنشاط الطلابى فى المساء، وفى الإجازات الصيفية، وفى أثناء عمله التحق بدراسة الماجستير فى الفلسفة، ثم بالدبلوم العام للمكتبات والمعلومات فور إنشائه بجامعة القاهرة . تمحورت دراساته ومؤلفاته ابتداء من سنة 1992 حول الكشف عن مشكلات الأقليات المسلمة فى العالم، وإبراز المعاناة والمظالم التى يتعرضون لها، ابتداء من الفلبين، ثم البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان، وصدرت له كتب فى هذه الموضوعات، ويأتى فى هذا الإطار تقديم شخصيات لعدد من المفكرين الإسلاميين لم يحظوْا بما يستحقون من اهتمام فى العالم العربي وعلى رأسهم على عزت بيجوفيتش، الرئيس الأسبق لجمهورية البوسنة والهرسك، وأحد أكبرالمفكرين الإسلاميين الإصلاحيين فى القرن العشرين.. ولة العديد من الابحاث فى القضايا الساخنة. عمل مديراً للمركز الثقافى بمانيلا – الفلبين،كما عملأميناً عاماً لمكتبة المعهد العالي للتكنولوجيا باستراليا، ثم أميناً للمكتبة القومية باستراليا. فخبيراً للمكتبات بمنظمة اليونسكو ثم مديراً لمكتبات جامعة قطر. ثم تفرغ لدراسة القضايا الإسلامية المعاصرة في التاريخ الحديث. أثري الأستاذ محمد يوسف عدس المكتبة العربية بالعديد من المولفات الرائدة في بابها، وقد أثرت أفق الفكر الإسلامي، ومما هو جدير بالذكر أن الظروف ساعدت الأستاذ عدس؛ حيث تنقل بين الدول العربية والأجنبية واتقن العديد من اللغات وتعرف إلى الشخصيات العالمية التى أثرت في فكره ووجدانه وأمدته بالتجارب الثرية، لذا جاءت كتبه فريدة في بابها رغم صغر بعضها إلا أنها جرعات مركزة، ومن كتبه: "البوسنة في قلب إعصار"، و"كوسوفا، بين الحقائق التاريخية والأساطير الصربية"، و"الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف"،و"الوجه الحقيقي للإمبريالية الأمريكية" و"محمد أسد: سيرة عقل يبحث عن الإيمان"، و"الفلبين " نشرته دار المعارف سنة 1969 ضمن سلسلة "شعوب العالم". كما ترجم العديد من الكتب مثل: "الإسلام بين الشرق والغرب"، لعلي عزت بيجوفيتش، رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، كما ترجم له أيضاً كتاب "الإعلن الإسلامي"، وترجم مختصر كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، وكذلك ترجم مذكراته. كما ترجم "البؤساء" وهي مجموعة من القصص الفلبينية القصيرة لللأديب الفلبيني "بيِينْفِِنيدو سانْتوس"نشر سنة 1984. وترجم كتاب "تجديد الفكرالديني في الإسلام" ل محمد إقبال: (تمت ترجمته بتكليف من مكتبة الإسكندرية ضمن مشروع إعادة نشر مؤلّفات المفكرين الإصلاحيين في العالم الإسلامي)، وكتاب الدولة اليهودية، لثيودور هرتزل، صدرت طبعته الثالثة من مكتبة البخاري،2009م كما نشر مئاتالمقالات فى العديد من الصحف والمجلات المطبوعة والمواقع الإلكترونية، وأشهرها مجلة المختار الإسلامي، وقد تعرف على صاحبها الحاج حسين عاشور في بداية التسعينيات من القرن الماضي ولما عرف عن عدس أنه مشغول بتأليف عن قضايا المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان، رحب بنشرها في سلسلة كتاب المختار الإسلامي، وبدأ منذ هذا التاريخ يمد المجلة بمقالات شهرية ... فكره: استطاع يوسف عدس أن يرد الاعتبار لبعض الرموز الفكرية التي لقت إعراضاً وإهمالاً ملحوظاً من قبل أجهزة الدولة في الثقافة والصحافة والإعلام ، في الوقت التي تسمح فيه للأعمال الهابطة التافهة التي تملأ الفراغ الأدبي وتروج لأعمال صادمة لعقيدة الأمة، مجدفة في دينها ومقدساتها..مثل رواية وليمة لأعشاب التي نشرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2000، في طبعة شعبية تتاح لكل أطياف الشعب، وكتب الأستاذ محمد يوسف عدس نقداً لهذه الرواية بعنوان "وليمة لحثالة البشر: سخام على وجه الثقافة أم جنون البقر؟!!" وبين أن رواية الوليمة "ليس فيها أدب ولا إبداع ولا فكر، ولا علاقة لها بالحرية الحقيقية اللهم أن تكون عبادة الفروج والعبودية للجنس، والشهوة المنحرفة هي الحرية التي يقصدونها، والرواية المنكودة نتاج عقل مريض صرعته الإدمان واستحلال الرذيلة واعتياد الفسق..واختلطت فيها الهلاوس والتهويمات بمعطيات حواس مضطربة زائغة، والتقت فيها شخصيات مزجتها نزعات سادية وماسوكية، تفوح في أرجائها رائحة عفنة لأوضاع جنسية واعرة منحرفة، وتتناثر على صفحاتها إفرازات لحيوانات نهمة لا تميز فيها بين الدم واللعاب، بين المني والبول والبراز.. وتختلط في هذه الرواية الرؤى المريضة تحت وطأة الإدمان وجنون الشهوة؛ فيرى الرجل الفاسق إلهه بين فخذي عاهرة، ولا يدري - وهو مخدر العقل- إذا كان يرتفع إذا كان يرتفع صاعداً في ملكوت السماء أم تهوى به في قاع الجحيم ". ويبين عدس أن الصياغة اللغوية والأسلوب المستهر المنحط الذي كتبت به الرواية لا يمت إلى الفن أو الأدب، إلا أن يكون أدب المراحيض الذي هو أقرب إلى القيء والبراز حيث يصدق على صاحبه قول الشاعر: فإذا تمعر أو تكشر ضاحكاً ...فكأنه من وجهه يتغوط كما ضرب الأستاذ محمد يوسف عدس مثلاً للأدب الهادف الرفيع الذي تم حظره فور نشره، وهي المسرحية الشعرية "البعث" للدكتور صلاح عدس الذي تم اختياره من قبل وزارة الثقافة لتلأيف مسرحية شعرية في موضوع متفق عليه وباء على ذلك منحته الوزارة "منحة تفرغ" لمدة عام لإنجازها، ولكن المؤلف قدم رؤيته الخاصة في هذا الموضوع، التي لا تتفق مع تصورات الوزارة فأهالت عليها التراب... وقد أنصف الأديب الكبير نجيب محفوظ والذي التصقت به تهمة الإلحاد ونفى عنه هذه التهمة وتحدث عنه في مقالتين مبرزاً دوره الفكري والأدبي وأثبت أن نجيب محفوظ كان يعتز بالإسلام دينا وحضارة ويتخذه لأي مشروع عربي واستشهد بقوله: "إن أي مشروع حضاري عربي لابد أن يقوم على الإسلام، وعلى العلم كلاهما..." وقول آخر لنجيب قاله في مناسبة حضرها بعض المثقفين ومنهم الإعلامي أحمد فراج: "إن أهل مصر الذين أدركناهم ..وعشنا معهم..والذين تحدثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون بالإسلام ..ويمارسون قيمه العليا ..دون ضجيج ولا كلام كثير..وكانت أصالتهم تعني هذا كله ..لقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس ..هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم ..ولكني في كلمتي إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم ..لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير أموره على أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب ..إن كتاباتي كلها؛ القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا ..والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا". وقد اهتم الأستاذ محمد يوسف عدس بإبراز دور أهم مفكري عصره ومنهم المفكر والمجاهد العالمي الكبير على عزت بيجوفيتش(8 أغسطس 1925- 19 أكتوبر 2003م)، وكون معه صداقة منذ أن اندلعت حرب التطهير العرقي التي دارت رحاها في البلقان في بداية التسعينيات، وقد قال عنه: "إنه ليس كتابًا بسيطًا، يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخيًا، أو يقتحمه من أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك، ثم يظن أنه قد فهم شيئًا؛ لا، إنه موجه لجمهور من خاصة القراء، يتمتعون بخلفية ثقافية عريضة وعميقة، ولهم قدم راسخة في تذوق اللغة والأدب. في عقول هؤلاء يمكن أن تتفاعل أفكار علي عزت، وأن تثمر". وكان أول المفكرين الذين كتبوا عن هذه المسألة، وقد ترجم ثلاث كتب له هي: "الإسلام بين الشرق والغرب" الذي ظهر لأول مرة سنة 1994 والحرب على أشدها في البلقان، وقد أحدث هذا الكتاب هزة ثقافية وإعلامية ملحوظة وكان مثار إعجاب ودهشة من الجميع، وانعقدت حوله ندوات في مصر وفي العالم العربيولما رأى الكتابموجه لصفوة القراء والمثقفين وأنه يصعب وفهمه من جانب القاريء العادي محدود الثقافة، فعمل على اختصاره وغصدار طبعة ميسرة منه كما ترجم له كتاب الإعلان الإسلامي ولخص مذكراته .. واهتم أيضا بالمفكر الفيلسوف الكبير محمد إقبال، وفي الذكرى المائة والتاسعة والثلاثين لميلاد محمد إقبال..سئل الأستاذ عدس من قبل صديقنا الصحفي السنوسي محمد السنوسي مندوب موقع "إسلام أون لاين" بسؤال بالغ الأهمية؛ لا في زمنه فحسب بل في كل الأزمان .. قال: هل ترى حاجةً إلى العودة لفكر الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال ..؟ فأجاب الأستاذ عدس قائلاً: "إن مرور الزمن لا يطفئ جذوة الفكر المتالّق بل قد يزيده تألّقًا .. ولأن فكر إقبال كان معنيًّا بالنهوض والتجديد وبالحركة والتطوّر؛ فهو مرتبط بالمستقبل، ولذلك فنحن الآن أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى أن نعاود النظر في رؤيته الخاصة ونظراته العميقة فى الإصلاح والتجديد". واستحوذت عليه قضايا العالم الإسلامي فأصبح يعيش همومها وأتراحها، ومنها قضية البوسنة والهرسك التي استولت على عقله ومشاعره منذ عام 1992، وترجمته لكتب بيجوفيتش – كما سبق أن أوضحنا- وخلال بحثه لماساة البوسنة تأكدت عنده عقيدة: أن هذه المأساة يمكن أن تتكرر مرة أخرى في البوسنة نفسها أو في مكان آخر قريب أو بعيد عنها، وقد صدق حدسه، فبعد أقل من ثلاثة أعوام بدأت أعمال عنف صربية تجتاح شعب كوسوفو بغية استئصاله من أرضه كما حدث في البوسنة ..من هنا شعر أنه من واجبه أن يسجل البوسنة بكل أبعادها وأسرارها، لتكون درساً حياً ماثلاً أمام عيوننا وعيون الأجيال القادمة ..كما تحدث عن مشكلة كوسوفا في كتابه "كوسوفا، بين الحقائق التاريخية والأساطير الصربية"، كما تحدث عن مشكلة الشيشان في كتابه "الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف". وبعد رحلة طويلة قضاها الأستاذ محمد يوسف عدس رحل يوم السبت 9 محرم 1439ه (30سبتمبر 2017) وتم الصلاة عليه ودفنه يوم الأربعاء 13محرم 1439ه (4أكتوبر 2017) ..رحمه الله رحمة واسعة..