أؤكد فى مطلع حديثى هذا على أنه غير موجه لمجمل التيارات الإسلامية فى مصر، ولو كنت أرغب فى توجيه الحديث لأىٍّ منها - وعندى بالتأكيد من الأسباب ما يجعلنى أتحاور معها - لوجهته لها بشكل مباشر وصريح دون التفاف أو هروب من المواجهة ... بل ولا أوجه حديثى هذا لمجمل التيار الإخوانى غير التنظيمى، فأكثره أسير لفكرة الولاء للدين، وليست عندى مشكلة مع الالتزام الدينى كى أراجعهم فى جوهر ما يلتزمون به، حتى وإن اختلفت معهم فى تمييز ما هو دينى عما هو اجتهاد فقهى ... وإنما أوجه حديثى هنا لتنظيم الإخوان ولأذرعه الإعلامية التى لا تكف عن ابتزاز غيرها من تيارات ووجوه المعارضة بأحاديث ملتوية ومراوغة عن مواقف هذه التيارات والوجوه المعارضة من أفكار وسياسات الجماعة التى أوصلتنا إلى الثلاثين من يونيو وما بعدها. عاش تنظيم الإخوان لسنوات طويلة يقتات على زاد المظلومية، وعلى معاناة كثير من قياداته وكوادره وأعضائه فى السجون، ناهينا عمن مات منهم فى المعتقلات، أو تم التخلص منهم إعداماً أو اغتيالاً؛ وربما ساعد التنظيم على تأكيد هذه المظلومية تصرفات غاشمة وغشيمة لأنظمة سياسية تعانى فى بنيتها من أمراض ليس أخطرها القصور الشديد فى كفاءتها الإدارية، وعجزها الواضح عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمجتمع صار يشعر أكثره بالظلم ولا يجد ملاذه إلا فى الدين أو عند من يدعون أنهم وكلاؤه الحصريون. بيد أن حالة المظلومية تلك التى اقتات عليها التنظيم منذ نشأته، وإن كانت مبررة شكلاً وهو خارج الحكم، لم تعد مقبولة لا شكلاً ولا موضوعاً بعد أن سيطر التنظيم على البرلمان، وعلى رئاسة مجلس الوزراء وعلى قصر الاتحادية، بل وبعد أن اختار بكامل إرادته شخص القائد العام للجيش ومعه كل قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة ! ... وهنا يجب أن تكون لنا أول وقفة مع التنظيم، ومع حديثه الذى استمرأه عن المظلومية؛ فمجرد الحديث عن أن أجهزة الدولة، وفى مقدمتها الجيش، كانت تتآمر عليه هو فى حد ذاته اعتراف ضمنى بفشل التنظيم وكوادره السياسية فى إدارة شؤون الحكم، إلا إذا كانوا قد تصوروها مجرد غنيمة لا مسؤولية فشل التنظيم فى توفير شروط نجاحه فى تحملها ! لا شك فى أن الثلاثين من يونيو 2013 - وما تلاه من أحداث - كان نقطة فاصلة فى تاريخ الجماعة، وفى علاقتها بما اعتادت عليه من حديث المظلومية الذى استمر فيه التنظيم كستارة دخان يحجب وراءها فشله الذريع فى التحكم فى مفاصل الدولة، وافتقاره المفضوح لأية رؤية حكيمة تمكنه من التعامل مع تعقدات الدولة المصرية بعيداً عن قوانين السمع والطاعة التى كان يُسَيِّر بها التنظيم شؤون الجماعة ... لكنه لم يكتف هذه المرة بنسبة المظلومية لأجهزة دولة كان هو المسؤول عن تشغيلها وتوجيهها وإدارتها لمدة عام كامل على الأقل، وإنما أخذ ينسب مظلوميته لباقى تيارات ووجوه المعارضة التى لم يتورع التنظيم عن نعتها بالكارهة للإسلام ولكل ما هو إسلامى ! بل أخذ التنظيم يزيد من كثافة سحابة الدخان التى يستر وراءها عورته بحديث مراوغ تواظب عليه أذرعه الإعلامية التى لا تكف عن ابتزاز تيارات ووجوه المعارضة الأخرى بمواقفها مما حدث فى الثلاثين من يونيو، داعية إياهم للرجوع عن خطيئتهم فى حق ثورة يناير، والانضواء تحت قيادة التنظيم من أجل إسقاط نظام السيسى الاستبدادى ! لا شك عندى فى أن النظام الاستبدادى الذى أسسه السيسى خلال فترة حكمه الأولى، ويسعى لتأكيده وتأبيده فى فترة حكمه الثانية، إنما يستنفد الآن زيت سراجه، رغم ما يبدو على السطح من أضواء نجاحات وانتصارات زائفة، حتى لأكاد أرى مآلات المشهد الحالى تحدثنا عنها كتابات قلاسفة التاريخ والسياسة منذ قرون؛ كما لا شك عندى فى أن هذا السراج سينطفئ نوره عاجلاً لا آجلاً بسبب استنفاد زيت السراج، لا بسبب نفخ المعارضين فيه، تماماً كما انطفأ من قبل سراج حكم الإخوان؛ ولكن يبقى السؤال قائماً وهو ما هوية السراج الذى سيضئ بعد انطفاء سراج السيسى؟ وهل هو سراج التنظيم الذى يواظب إعلامه على جهود إطفاء كل ما عداه من مصادر النور التى يتهمها التنظيم وإعلامه بالتآمر على الدكتور مرسى؟ وهل مازال الدكتور مرسى، كما يقدمه إعلام التنظيم، هو السراج الشرعى الوحيد، المدعوة كل تيارات المعارضة ووجوهها للإقرار باستمراره رئيساً شرعياً للبلاد، ولأن تطفئ جذوتها التى أغوتها فى الثلاثين من يونيو، لتستضئ فقط بسراج التنظيم؟! دعونى أؤكد هنا على أننى بما أسلفت لا أستهدف إقصاء أحد من المشهد السياسى المصرى، ولا خوض معركة صفرية مع أحد، ولا مصادرة حق أى إنسان فى الانتماء لمشروعه الذى يستريح إليه، طالما تحمل هو مسؤولية نجاح أو فشل هذا المشروع، فلا يدعو الآخرين لإنجاح مشروعه، ولا ينسب إليهم بإطلاقه سحب الدخان أسباب فشله ! ... لست غافلاً بكل تأكيد عن حقيقة أن تنظيم الإخوان قائم بالفعل، اعترفت به الدولة المصرية أو لم تعترف؛ ولا أنا غافل عن كونه يمتلك قدرات مالية تسمح له بدعم استراتيجيته، ومنصات إعلامية مؤثرة تُرَوِّج له وتُشَهِّر بخصومه أو بمن لا يرضى عنهم التنظيم؛ كما يمتلك التنظيم علاقات دولية تتبنى أطرافها مساندته فى قضيته، وحاضنة مليونية شعبية حتى وإن خبا صوتها إلى حين، ورصيداً هائلاً من الخبرات التنظيمية، ومخزوناً من التراث الفكرى يسبق قيام الجماعة نفسها بقرون طويلة؛ فلا أنكر أن التنظيم باق رغم مشاكله، استرحنا لبقائه أو انزلقنا لمهاترات السلطة فى تعاملها الأمنى معه وكأنه مشكلة محض أمنية لا مشكلة وجودية تواجه الدولة المصرية؛ بل أعلم يقيناً أن التنظيم سيواصل طريقه آملاً فى تحقيق أهدافه كما وضعها آباؤه المؤسسون، ومنتهاها أستاذية العالم ... فلا أنا ضحية أوهام بقرب نهاية التنظيم، ولا أنا أعطى لنفسى الحق فى أن أرسم له حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها ... وإنما أسعى هنا فقط لتبديد سحب الدخان التى يستتر وراءها التنظيم، ولرسم الحدود الموضوعية التى تفصل بين مسعاه ومواقفه وبين مسعى ومواقف الآخرين. أما أولى خطوات تبديد سحب الدخان هذه، تمهيداً لرسم الحدود وغرس علامات الطريق فى مواضعها، فهى دحض ادعاء التنظيم بأن مشروعه السياسى هو مشروع ثورة يناير 2011، وهو ادعاء لا يمت بأى صلة لحقائق التاريخ ولا لحقائق السياسة ولا للواقع كما رأيناه طيلة 29 شهراً بعد الخامس والعشرين من يناير؛ وما الإلحاح بهذا الادعاء على العقل التاريخى المصرى، وعلى عقل مصر السياسى، إلا بغرض استدراج المصريين لترديده دون وعى، ليلعب التنظيم بعد ذلك دور المرجعية التنظيمية لمسارات إنجاح الثورة، ودور الحاضنة لأى حراك سياسى يسعى للتغيير ! ... صحيح أن الإخوان قد شاركوا - ولو متأخرين - فى أحداث الثورة، وكثير منهم أبلى بلاءً حسناً ليس من الإنصاف إنكاره؛ لكن هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال أن المشروع السياسى والتاريخى للإخوان هو نفسه مشروع الثورة السياسى والتاريخى؛ فترويج مثل هذه الادعاءات إنما يمحو كل معالم الطريق، ويأخذ بمصر إلى ثقب سياسى وتاريخى أسود لا يمكن حتى لشعاع من نور العقل أن يفلت من قبضته إن هو ابتلع الوعى بالفارق الكبير بين مشروع الثورة ومشروع الإخوان ! أما الادعاء الثانى الذى لابد من دحضه، وهو متفرع من الادعاء الأول، فيتلخص فى ادعاء التنظيم وأذرعه الإعلامية أن إسقاط المشروع الإخوانى فى 2013 كان مجرد مؤامرة على مشروع ثورة يناير 2011، لا نتيجة منطقية لانحراف مشروع الإخوان عن مشروع الثورة ! ... ويؤسفنى هنا أن تنساق بعض النخب إلى فخ ترديد هذا الادعاء المراوغ الذى يمنح تنظيم الجماعة صكاً مجانياً بغفران خطاياه السياسية، وشهادة معتمدة ببراءة الذمة ... ... بيد أن النزاهة السياسية - كما كنت قد أكدت وقتها فى مداخلاتى الإعلامية - إنما تقضى بالاعتراف بأن يناير ويونيو لم تكونا ثورة واحدة، وإنما كانتا ثورتين لكلٍّ منهما خريطة ميدان تختلف عن الخريطة الأخرى؛ تماماً كما لم تكن ثورتا 1789 و 1830 فى فرنسا ثورة واحدة، وإنما تتعامل معهما كتب التاريخ باعتبارهما ثورتين لا ثورة واحدة وإن كانتا تتكاملان أو تتابعان فى صياغة الوعى وفى تشكيل مسارات التاريخ الفرنسى ... كانت هناك بالتأكيد فى مكونات خريطة يناير مجموعات لا وجود لها بين مكونات خريطة يونيو، كما تضمنت خريطة يونيو مجموعات لا وجود لها بين مكونات خريطة يناير ... ولا شك أيضاً فى أن بعض هذه المجموعات التى شاركت فى يونيو كانت مناهضة لثورة يناير، لا لمشروع الإخوان فحسب، كما أن بعض المجموعات التى شاركت فى يناير كانت مناهضة للدولة القومية المصرية، لا لنظام دولة مبارك فحسب، وما مشهد جمعة قندهار من ذاكرتنا القومية ببعيد ! ... بيد أن نجاح كل هذه المجموعات فى إيذاء يناير لم يتحقق إلا بسبب حسن نية بعض مجموعات يناير التى أحسنت الظن فى الإخوان أيام الثورة الأولى وما بعدها أملاً فى تخليص التيار الإخوانى من إسار المظلومية التاريخية، كما تتحمل نصيبها من المسؤولية أيضاً بعض مجموعات يناير التى شاركت فى يونيو أو تلك التى ناهضتها، تاركة مسارات الثورة ومآلاتها فى أيدى آخرين كانت لهم مشاريع لا علاقة لها بمشروع يناير ولا بمشروع يونيو، ولهذا حديث يطول ... لكن - فى كل الأحوال، وأياً كانت وجهات النظر بشأن قراءة الحدثين - فإن من شاركوا فى يونيو من بين أولئك الذين كانوا قد شاركوا فى يناير لم يكونوا بمشاركتهم تلك ينقلبون على يناير كما يروج اليوم الإعلام الإخوانى الذى يطالبهم بالتوبة، وإنما هم ثاروا فقط على انحرافات المشروع الإخوانى عن روح وأهداف مشروع يناير، وفى هذا يُسأل تنظيم الإخوان، بل ويُطالَب بالاعتذار عن انحرافاته، ولا يُسأل ولا يُطالَب بالاعتذار من ثاروا على هذه الانحرافات. أكتفى بهذا القدر، فقد طال بنا حديث ستكون له بالتأكيد بقية، غير أننى أؤكد فى هذا المقام لذوى النوايا الحسنة، الذين يرون أن هذا ليس وقت الحديث عما يفرقنا، وإنما فقط عما يوحدنا، أن منطق التغاضى عن الشيطان الذى يكمن فى الاختلافات هو الذى سمح لهذا الشيطان بأن يسيطر على كل المشهد السياسى فى مصر بعد ذلك، وأنه ليس طريق السلامة أن نسلك طريقاً لا نعرف شيئاً عن خرائطه، ولا سبيل لنا للتعرف على هذه الخرائط إلا بطرح الأسئلة وكشف المغالطات، إذ بمثل هذا تتكشف أمامنا ملامح الثقوب السوداء التى تكاد تبتلعنا جميعاً ... تلك الثقوب التى إن نحن تركناها تبتلعنا فسيبقى الصراع الوحيد الممكن فى مصر هو الصراع القديم بين نظام يوليو، الذى استنفد منطقه التاريخى، وبين تنظيم الإخوان، الذى يستدعى أفكاراً كتب التاريخ خاتمة كتابها منذ قرون، وأتحدث هنا عن التجربة التاريخية لا عن الدين ! هذه الرؤية الضيقة لباب الخروج من الحاضر المستحيل إلى المستقبل الممكن هى تحديداً الرؤية التى أوقعتنا فى شرور تاريخية مستمرة ومتراكمة منذ ألفىّ عام ونَيِّف، وأعنى بهذه الرؤية الضيقة الاستسلام للأمر الواقع وكأنه قدر لا نملك إنسانياً ولا وطنياً القدرة على تجاوزه ... عفواً، فليسلك تنظيم الإخوان طريقه الذى يراه يناسبه، وليتخذ من المواقف ما يخدم طموحاته، ولتقف باقى تيارات المعارضة وقفة صدق مع النفس، لتفرز أفكارها، وتزن منطق تحالفاتها، ولتتبارز الأفكار بعد ذلك مع الأفكار علَّنا نجد فى نهاية المبارزات الفكرية هذ مفاتيح مغالق الطريق ... نحن نحتاج، فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، لأن نجرب - ولو من باب التغيير - أن ندخل من الباب الضيق، فإنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك ... إنه لمن سخريات القدر أن يهدر هذا المبدأ الرئيس فى صناعة التاريخ من كان يُفترَض فيهم أن يكونوا أول من يؤمنون به ويروجون له؛ لكن من قال إن مشكلتنا هى مع تنظيم الإخوان وحده؟ إنها مع كل مكونات ما تبقى من الدولة المصرية التى كنا نقول عنها حتى وقت قريب إنها خالدة وإن نهرها الذى وهبها الحياة خالد كخلودها !!