ذهبت منذ أيام إلى إحدى عيادات التأمين الصحي لتوقيع الكشف الطبي وقياس ضغط الدم الذي ارتفع عندي خلال الأسابيع الماضية، وانتظرت مجىء الطبيب بعد أن وقفت في طابور طويل وممتد لتسجيل الأسماء وأخذ رقم ودور للكشف ..فجلست أتطلع وجوه الناس وأراقب سير العمل في هذا المكان.. اللامبالاة تسيطر على جميع العاملين من أطباء وممرضين وعمال..المدير ورؤساء الأقسام لا يكلفون أنفسهم بالمرور لمتابعة سير العمل في العيادات، وإذا ذهب أحد المرضى للشكوى لا يكلف المدير نفسه بالتحقيق وإنما يكتفي بتطييب خاطره إذا كان لديه ذوق .. أما كان عنده لامبالاة فلا يعير الشاكي أي اهتمام والسلام.. والطبيب لا يكلف نفسه أيضاً بالكشف والفحص فيأخذ برواية المريض، وإذا كان المريض غير حاذق في الوصف والتشخيص فمن الممكن أن يصف له دواء بالخطأ.. يعني مطلوب من المريض الذي يتعامل مع عيادات التأمين الصحي أن ياخذ دبلوم في التشخيص الطبي حتي ينجح في التعامل مع الأطباء، لذا نجد مرضي الأمراض المزمنة لا يتحسنون في تلك العيادات، فإذا أرادوا هؤلاء المرضى تطويل أعمارهم فعليهم أن يذهبوا إلى العيادات والمراكز الخاصة التي تتكلف فيها الزيارة آلوف الجنيهات .. الطبيب من المفترض أن ياتي صباحاً، وهناك جهاز البصمة الذي يضبط المواعيد، ويجعل الكل ياتي في الموعد المحدد، ولكن (الفهلوة) والمكر تلعب دورها، وتطل برأسها.. فيأتي الطبيب في موعده ويبصم، ثم ينطلق بسيارته (الآخر موديل) إلى حيث مشاويره وأعماله الخاصة، ثم يأتي بعد أن يجعل الناس تتقلب على جمر النار من الانتظار والآلم، وتفقد الساعات حيث أن المترددين موظفون يستأذنون من العمل في ظل مناشدة المسئولين بالجدية في العمل والإنتاج ومع هذا نجد من بين جلدتنا أناس يقدمون أنفسهم على أنهم أرقي مستويات التفكير في بلادنا، ويفتخرون أنهم خريجو كليات القمة- يضيعون على الناس أوقاتهم .. جلست إلى جواري طفلة ومعها أبيها الذي يكتسي وجهه بالبؤس والحزن وقلت لها مما تعاني؟ فقالت لي أنها تعاني "المكيروب السبحي"، وحللت أكثر من مرة وهو لا ينزل عن ال600 ودخل أبوها في الحديث، وقال لي أنه يدوخ (السبع دوخات) في توفير المضاد الحيوي طويل المدي ..سأل عنه في المستشفيات والصيدليات وفروع شركات الدواء الحكومية الذي من المفروض ان يتوفر فيها، ولكن لا جدوى..وفي النهاية يشتريه من السوق السوداء بمبلغ من 150 إلى 200 جنيهاً علماً بأن سعره الحقيقي تسعة جنيهات .. وأخبرني ممن يعملون في مجال الدواء بأن أناس يعملون معه ظهرت عليهم علامات الثراء المفاجىء .. وأن أحدهم - ممن لم يتجاوز ال30عاماً - في سنة واحدة تزوج وعمل حفلة الزواج في أفخم الفنادق، وجهز شقته الفاخرة، ثم اشترى فيلا 500 متر في إحدي المدن الجديدة، كما أستاجر مخزن للأدوية واشترى سيارة (كسر زيرو) آخر موديل لا يقل ثمنها عن 120ألف جنيها كما أن لديه ثلاثة موتوسيكلات، علماً بأن راتبه في الشركة التي يعمل بها لا يزيد عن 1800جنيهاً ..يزوغ من عمله في وسط اليوم بالتنسيق مع مديره الفاسد، ثم يباشر عمله في السوق السوداء.. يتاجر بآلام الناس وعلى المكشوف و(على عينك يا تاجر)، والنماذج من هذا كثير.. فأصحاب الصيدلات يشترون العقارات في أفخم الأماكن، ويركبون السيارات الفارهة، وينفقون ببذخ ويعيشون عيشة الملوك.. في الأزمات التي تتعرض لها الدول تظهر طبقة من المجتمع لا يهمها آلام الناس، بل تتاجر في هذه الآلام.. رأينا هذا في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى وأثناء الحرب العالمية الثانية- تجار الحرب، الذين أثروا وكونوا الثروات الحرام، وتاجروا في كل شيء، حتى السينما دخلوها وأفسدوها وأنتجوا أفلام المقاولات التي لعبت على وتر الغرائز الجنسية، لذا أتخمت بالجنس والبورنو وتجارة المخدرات وسير الراقصات والغوازي والحكايات التافهة.. ثم رأيناهم بعد حرب أكتوبر 1973 قد استغلوا الانفتاح الاقتصادي وأفسدوا الاقتصاد الوطني، ثم رأيناهم بعد ثورة يناير2011، يعشطون السوق من السلع ويحتكرونها وارتفعت الأسعار أضعاف الأضعاف..