عندما قرر العالم منح دولة جنوب إفريقيا شرف استضافة أول بطولة لكأس العالم في القارة السمراء عام 2010 لم يكن ذلك هباءً، ولم يكن لحسابات تصويتية في مجلس الفيفا فقط، بل تكريماً وتقديراً لهذه الدولة، ولشعبها، لعدة أسباب منها: 1- إنهاء نظام الفصل العنصري القاسي وغير الإنساني بشكل سلمي رائع، وبتوافق مجتمعي نادر، فقد خرجت جنوب إفريقيا بعد تجربة ظالمة مريرة دولة متماسكة، ومجتمعاً متصالحاً، رغم وحشية "الأبارتهيد"، والتمييز، ودماء الأبرياء. 2- تكريم المناضل التاريخي نيلسون مانديلا الذي قاد كفاح شعبه نحو استعادة حقوقه الوطنية كاملة، وإقرار المساواة التامة بين السود والبيض، وقيادته نصالاً سلمياً بإنجاز مصالحة وطنية طوت صفحة الماضي، وتسامت عن الثأر والانتقام، لذلك خرجت جنوب إفريقيا من مستنقع التمييز، ومن اللحظة الفارقة في تاريخها أكثر عافية وقوة وتماسكاً وتلاحماً، وأقل أحقاداً وكراهية مجتمعية وإنسانية. 3- الديمقراطية الناشئة في هذا البلد، والتجربة تسير قدماً للأمام، وتؤكد ترسخها، وتجذرها، واعتمادها نظام حكم لا تلاعب به، ولا تراجع عنه، ولا تحويله إلى مسرحية عبثية، أو واجهة شكلية لحكم مستبد مثل كثير من بلدان القارة التي تقاوم حركة التاريخ، ومنطق التغيير، وضرورات الإصلاح الديمقراطي، وإذا سألت عن الديمقراطية الأولى المستقرة في إفريقيا كلها، فإنها موجودة في دولة جنوب إفريقيا دون منافس، وهنا مربط الفرس، إذ أن الخميس 15 فبراير 2018 يوم حاسم للديمقراطية في هذا البلد حيث تقرر عقد اجتماع للبرلمان لحجب الثقة عن الرئيس جاكوب زوما، أي طرده من المنصب، أي إقالته وفقاً للدستور والقانون، لا وفق انقلاب عسكري، ولا أساليب أخرى غير ديمقراطية تُدخل الدولة والشعب في نفق مظلم، الجلسة ستنعقد فيما لو لم يكن قد بادر من نفسه قبلها واستقال طوعاً استجابة لقرار حزبه الحاكم "المؤتمر الوطني الإفريقي" بضرورة التخلي عن منصبه. زوما متورط في قضايا فساد، وعلاقات مشبوهة مع رجال أعمال، وهذا لا يمر في الديمقراطية، وثقافة الشفافية، والرقابة والمحاسبة الحزبية والبرلمانية والمجتمعية والمدنية الحقيقية، وهناك سابقة مماثلة حيث تعرض الرئيس السابق ثابو مبيكي لنفس المصير عام 2008، فقد طلب منه حزبه "المؤتمر الوطني" الاستقالة من الرئاسة، واستجاب وخرج من السلطة، وبقيت جنوب إفريقيا، وانتعشت الديمقراطية، وتواصل التداول السلمي للسلطة. هكذا تكون الدولة ذات قيمة وتأثير ونفوذ في محيطاتها الإقليمية والقارية والدولية، وبسبب الديمقراطية والحكم الرشيد فإن جنوب إفريقيا هي الصوت المهم المسموع في القارة بأسرها حالياً، ولها وزنها في العالم كله، ومن ضمن التقدير الدولي كان إسناد مونديال 2010 إليها، ولو تقرر أن يكون للأفارقة مقاعد دائمة في مجلس الأمن فإن جنوب إفريقيا على رأس الدول المرشحة للحصول على مقعد، ولو أُسندت الأولمبياد للأفارقة لأول مرة في تاريخهم سيكون نصيب جنوب إفريقيا في استضافتها كبيراً. أين مصر من مشهد جنوب إفريقيا؟. في المونديال كانت هي والمغرب تنافسان جنوب إفريقيا، وحصلت مصر على الصفر الكبير والشهير الذي دخل أسوأ صفحات تاريخها، لم يكن هناك مجال للمقارنة بين ملفات الاستضافة، لم تكن في صالحنا، ولم تكن هناك مقارنة في ملفات الديمقراطية، والحريات، والتنمية الشاملة، لم يكن هناك شيء بارز في مصر يمكن للعالم أن يستند عليه للتفاعل معها والتصويت لها، كانت البلاد في حالة جمود. ورغم أن مصر أحد كبار إفريقيا، ولها تاريخ محترم في دعم حركات التحرر الوطني في القارة، وكان صوتها مسموعاً ومؤثراً ونافذاً وقت أن كانت جنوب إفريقيا معزولة تماماً، ولا دور لها في شؤون إفريقيا، إلا أن إزالة إرث الفصل العنصري سريعاً، والنهوض الأسرع، والدخول في حزام الديمقراطيات، والتطور على هذا الطريق، جعل جنوب إفريقيا تجذب الاهتمام والأضواء، وجعل العالم يتعامل معها كمدخل لإفريقيا، مصر كانت الأكثر استحقاقاً لهذه المكانة، لكن التاريخ وحده لا يكفي لتقييم الدول، ووضعها في الموقع اللائق بها، ماذا عن الحاضر؟، وما هي خطط المستقبل؟، هذان هما السؤلان الغائبان عن مصر منذ عقود. وقد جاءت ثورة 25 يناير لأجل مصر جديدة تحدث قطيعة مع مصر التي شاخت، لكن سارت الأمور في مسار معاكس، فالديمقراطية الوليدة تعطلت، والحريات التي انفجرت جرى تقييدها، والحلم الجميل صار كابوساً مزعجاً، وإذا كنا وصفنا عهد مبارك بالجمود فإنه مقارنة بمصر اليوم كان أفضل بدرجة، مصر الراهنة تحيا في حالة من القلق وعدم اليقين. الدول تُبنى بناءً جاداً وحقيقياً ومستديماً بالديمقراطية، ولا شيء غيرها، والدول تكتسب صورة مشرقةً، وسمعة باهرةً، واحتراماً عالياً في الخارج بنظامها الديمقراطي، وحكم دولة القانون. الديمقراطية تجعل المجتمعات أكثر تصالحاً وسلاماً، وتجعل الدول أكثر قوةً وتماسكاً وتقدماً. وهذا ما تنبهت له جنوب إفريقيا، فنجحت، وشقت طريقها، وصارت قائدة في قارتها، وهذا ما لا تريد قوى الحكم التقليدية في مصر أن تقتنع به حيث تتجاهل التاريخ والواقع والمنطق، وتصر على السير في طريق الأحادية السياسية، والحكم الفردي. وقد واتت البلاد فرصة مهمة في صنع انتخابات رئاسية تنافسية جادة هذا العام لإعادة استئناف مسار الديمقراطية الذي أعقب يناير، لكن تم تبديدها لتكون عملية شكلية لنظل ندور في نفس الحلقة من نمط الحكم الفردي، أو الحكم الأبوي، وكأن مصر في الألفية الجديدة وبعد حراكات وانتفاضات وثورات عظيمة ليست مؤهلة بعد لتكون صاحبة ديمقراطية على غرار أي دولة في الغرب، أو جنوب إفريقيا. [email protected]