من بين الأقاليم ال 17 التي تتشكل منها إسبانيا فإن كتالونيا يمثل الكابوس المؤرق ل ماريانو راخوي رئيس الحكومة المركزية بسبب النزعة الاستقلالية للإقليم التي تحولت إلى واقع خلال أكتوبر الماضي، لكن الحكومة في مدريد منعت الاستقلال الفعلي بكل السبل القانونية والديمقراطية. أركز هنا على دولة القانون والديمقراطية التي تلتزم بها إسبانيا قولاً وفعلاً، وأزمة كتالونيا كانت أكبر اختبار عملي لهذا الالتزام، تيار الانفصال وإعلان كتالونيا جمهورية مستقلة مضى في طريقه حتى النهاية بإعلان الاستقلال بعد الاستفتاء الذي حاز فيه الأغلبية، وفي المقابل عالجت الحكومة المركزية الأزمة الخطيرة التي تهدد تماسك الدولة وتفتح شهية أقاليم أخرى للانفصال بكل الطرق الدستورية والقانونية والوسائل الديمقراطية باستثناء تجربة عنف وحيدة استخدمتها الشرطة يوم التصويت في الاستفتاء مطلع أكتوبر الماضي، ومع ذلك لم يسقط قتيل واحد، فقط نحو مائة إصابة، وشعرت حكومة راخوي بالتجاوز وارتكاب خطأ لم يكن في صالحها فلم تكررها، القانون والديمقراطية يمنعان العنف، بل يحميان المواطن حتى وهو يقف ضد تماسك كيان الدولة لأن المواطن هو جوهر الدولة وأساس وجودها وبقائها وتقدمها وبدونه ما قيمة قطعة الأرض والعلم والنشيد الوطني، مجرد أرض فضاء ينعق فيها البوم. خلاصة الرؤية أن نهج القانون السليم، ومسار الديمقراطية النزيه، هو الطريق الأمثل في التعامل مع أعتى الأزمات، ثم هو نفسه الطريق الأمثل في حل أشد التناقضات تعقيداً، إذ بعد أن حلت الحكومة المركزية الحكومة والبرلمان، وجردت الإقليم من الحكم الذاتي بعد تفعيل المادة 155 من الدستور لم تستبد بإدارته، بل دعت لانتخابات مبكرة ليقرر سكان الإقليم من يحكمهم، وجاءت النتيجة في صالح أحزاب الاستقلال، والمفارقة أن مقاعد حزب رئيس الحكومة "الشعب" تراجعت من 11 إلى 3 مقاعد فقط. هنا يمكن للإسباني أن يقول ارفع رأسك فوق أنت في إسبانيا، وهكذا يقول كل مواطن في كل بلد ديمقراطي على كوكب الأرض، الشعار بلا معنى ما لم يكن مقروناً بالتنفيذ الدائم والأمين له، كان لهذا الشعار حقيقية على الأرض في مصر بعد ثورة يناير 2011، عاشت البلاد فترة ثرية وخصبة تشع بالحريات والشعارات المتفاءلة والممارسات الديمقراطية رغم ما اعترى تلك المرحلة من تجاوزات وممارسات تتسم ببعض الفوضى وخلافات وصراعات واشتباكات بين القوى السياسية المختلفة، وهذا طبيعي في ظل ثورة تنقل الشعب والبلاد من حالة استبداد طويل إلى حالة بناء ديمقراطي حالم، ومن هامش ضيق للحريات إلى حريات بلا هامش، ومن انتخابات شكلية مزيفة إلى انتخابات حقيقية تحدد الأوزان النسبية للأحزاب والساسة والنخب، كان الأمل كبيراً في انطلاق مصر نحو الديمقراطية ودولة القانون التي تجعلها تقترب من حالة إسبانيا تفكيراً ونهجاً وفي طبيعة القرارات لحل أخطر الأزمات. مع ذلك كانت دعوة 30 يونيو تستهدف الحفاظ على الديمقراطية وعدم المساس أو التلاعب بها ومطلبها الأساسي الذي خرج الناس من أجله هو انتخابات رئاسية مبكرة، وهو مطلب ديمقراطي حتى لو كان يصطدم مع ممارسة ديمقراطية "انتخابات الرئاسة" التي كان قد مر عليها عام واحد فقط. لست هنا بصدد مناقشة قضية شديدة الجدل، والرواية بشأنها غير مكتملة حتى الآن حيث هناك طرف أساسي فيها "الرئيس الأسبق مرسي" وراء القضبان ولم يُتح له الحديث فيها حتى لو كان مخطئاً تماماً في التعامل مع أحداث تلك الفترة التي لم تنجو البلاد من تداعياتها بعد. الدرس الإسباني المعقد وجد حلولاً من الدستور والقانون، ووجد مساراً آمناً يوفره له النظام الديمقراطي حتى لو كانت كل تلك الإجراءات تصطدم برغبة شعبية جارفة في النزعة الاستقلالية لمجموعة من السكان لأسباب تاريخية وثقافية ولغوية واقتصادية واجتماعية، لأن البديل الآخر هو القمع العنيف وستسيل فيه الدماء، أو الحرب الأهلية وستكون الدماء فيها أكثر غزارة، ضرر أخف كثيراً من ضرر، وإذا كانت تلك مقولة فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في تفسير انحيازه للتغيير في 3 يوليو 2013 فإن المشكلة في مسار ما بعد التغيير أنه لم يترجم الرغبة الشعبية والسياسية في صيانة مسار الديمقراطية الوليد ورعاية بذرتها التي رمتها يناير في أرض مصر حتى تورق وتزهر وتصير شجرة ثابتة تقاوم بثبات أي ريح مهما كانت أو محاولة كسرها من مجموعات غير ديمقراطية. مواصلة مرحلة الانتقال الديمقراطي، وتمتين هذا النهج، طوال السنوات الخمس الأخيرة كان كفيلاً اليوم بأن تكون مصر في حالة أفضل كثيراً مما هي عليه، الحديث عن أن الإرهاب يعرقل الديمقراطية مجرد ذريعة لتبرير تجميد الديمقراطية واستعادة نهج الحكم الفردي القديم، الإرهاب يضرب دولاً كثيرة في العالم، لكن استحقاقات الديمقراطية التنافسية لم تتوقف فيها، ولم يُغلق مجالها على شخص واحد أو أشخاص بعينهم. لا يُعقل أن تجري انتخابات رئاسية بعد أقل من عام ونصف العام فقط من يناير وتسجل علامة إعجاب لمصر في العالم رغم التوترات الكبرى التي صاحبت هذه الفترة، ثم اليوم وبعد سبع سنوات من يناير، وخمسة من يوليو، تكون انتخابات الرئاسة كأنها استفتاء من زمن سابق، بلا مقدمات لمرشحين كبار مؤثرين وحقيقيين يعكسون زخم التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية في مصر، انتخابات المرشح الأوحد من قبل أن يترشح، ومن المؤكد أن هذا ليس في صالح المرشح المضمون فوزه، مصلحته في تنافس قوي وجاد، وفوزه هنا سيكون له معنى آخر إيجابي جداً له ولمصر ولصورتها في العالم. [email protected]