حركات الإسلام السياسي هي الرقم الصعب في معادلات التطور الديموقراطي وحساباته في دول عربية عدة. وقد يخوض بعضها تجارب صعبة في الفترة المقبلة من نوع ما يواجه «الإخوان المسلمين» في مصر في الانتخابات البرلمانية، بالرغم من أن حظوظهم فيها تفوق باقي أحزاب وقوي المعارضة بمسافة واسعة. فالحركات الإسلامية رقم صعب لأن قوتها النسبية مقارنة بأي من أحزاب وجماعات المعارضة تجعل التطور الديموقراطي الصعب لأسباب تاريخية ثقافية وسياسية أصعب. وموقفها المتأرجح الذي لا يخلو من غموض تجاه قواعد العملية الديموقراطية يثير مخاوف هنا وشكوكاً هناك في شأن الطريقة التي ستتصرف بها إذا وصلت إلى السلطة أو شاركت فيها. ويخلق هذا كله أزمة عدم ثقة تؤثر سلباً في العلاقة بين جماعات الإسلام السياسي من ناحية ونظم الحكم ومعظم الأحزاب والجماعات الأخرى أو على الأقل بعضها من ناحية أخرى. وينطبق ذلك على جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر التي تعتبر هي الأكبر حجماً وتأثيراً بين قوى المعارضة، كما اتضح مجدداً من نتائج المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية التي بدأت في 9 الجاري. وكان متوقعا منذ أن بدأ الإعداد لهذه الانتخابات أن ينجح «الإخوان» في زيادة عدد مقاعدهم في البرلمان بنسبة تتراوح بين مئة ومئتين فى المئة، أي إحراز ما بين 35 و50 مقعداً (من 8 إلى 12 فى المائة من مقاعد البرلمان). ولذلك رفعوا عدد مرشحيهم من 70 مرشحاً في الانتخابات السابقة إلى نحو 130 في الانتخابات الحالية. غير أن سعيهم إلى زيادة نصيبهم في البرلمان تعارض مع محاولة بعض أحزاب المعارضة لتأسيس تحالف انتخابي أو جبهة حيث لا فرق عند معظم المعارضة المصرية بين أشكال ومستويات العمل الحزبي المشترك. وجد «الإخوان» أنفسهم في موقف صعب بين خيارين يرغبون في كليهما، ولكن لا يستطيعون جمعهما. الأول هو أن يواصلوا العمل الذي بدأوه سعياً إلى زيادة تمثيلهم في البرلمان وتأكيد نفوذهم في الشارع السياسي عبر إظهار قوتهم الانتخابية. ويقتضي هذا الخيار عدم التفريط في أي دائرة انتخابية يوجد بينهم مرشح قادر على المنافسة فيها حتى إذا تعارض ذلك مع ضرورات التنسيق الانتخابي مع أحزاب وقوى المعارضة الأخرى. والخيار الثاني هو أن ينضموا إلى تحالف المعارضة في ظل ميزان قوى يعطيهم قيادته من الناحية الفعلية. فعندما يؤسَس تحالف لأسباب انتخابية في المقام الأول، يصبح الطرف الأكبر حجماً والأقوى تنظيماً هو مركز الثقل فيه. ولكن في مقابل هذا المكسب، فالالتحاق بالتحالف يفرض عليهم التضحية بعدد من المقاعد التي يمكنهم حصدها والتنازل عن الترشح فيها لأطراف أخرى في التحالف. فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها تحالف انتخابي هو الإخلاء المتبادل للدوائر بحيث لا يتنافس مرشحان معارضان في الدائرة نفسها. ولكن هذه القاعدة قد يصعب تفعيلها إلا إذا كانت أوزان أطراف التحالف متقاربة. أما حين تتفاوت هذه الأوزان، ويكون التفاوت شديدا، يعمل الإخلاء المتبادل في غير مصلحة الطرف الأقوى أي «الإخوان» في هذه الحال. لكن إذا كان في الالتحاق بالتحالف خسارة عدد من المقاعد، ففي رفضه خسارة سياسية لأنه يوسع الفجوة بين «الإخوان» وباقي أحزاب وجماعات المعارضة، ويزيد بالتالي أزمة عدم الثقة، فضلا عن أنه يحرمهم من حماية نسبية يوفرها لهم وجودهم مع أحزاب المعارضة الرئيسة في تحالف يخوض الانتخابات بلائحة مرشحين واحدة. وإذا تأملنا الخيارين، وجدنا أن أولهما قد يحمل مكسبا أكبر في الانتخابات ولكنه قد ينطوي على خسارة أكبر أيضاً على مدى زمني أطول. أما الخيار الثاني، الذي يحرم «الإخوان» من كسب انتخابي أكبر، فهو يوفر لهم فرصة غير مسبوقة لتدعيم مركزهم في الملعب السياسي. لكن «الإخوان» لم يجروا حساب المكسب والخسارة بهذه الطريقة التي يفترض أن يتبعها السياسي الرشيد الذي لا يركض وراء المكسب السريع إذا كانت كلفته عالية في ما بعد. اختاروا عدم الالتحاق بالتحالف الانتخابي، مع وعود بالتنسيق في بعض الدوائر لم يفوا ببعضها مثلما حدث في تعهداتهم بسحب بعض مرشحيهم الذين ينافسون رموزاً للمعارضة. ولذلك ازدادت أزمة عدم الثقة بينهم ومعظم قوى المعارضة. ولم يفلح رئيس حزب الوفد في إخفاء ذلك على رغم إشادته المستمرة بهم، بعد أن أدرك كثيرون أنه لا يفعل ذلك إلا من باب «الكيد» لإغاظة الحزب الحاكم الذي تركه لسقوط ذريع في الانتخابات الرئاسية التي حل فيها ثالثا ولم يقدم أي عون له. ولذلك لم تؤخذ بجدية مشاركة «الإخوان» في «جبهة» المعارضة التي اقتصر التحالف فيها على قضايا الإصلاح السياسي والدستوري في خطوطها العامة ومن دون الدخول في تفاصيل تثير الخلاف ليحتفظوا بحريتهم في استخدام شعارات دينية ضمن خطابهم السياسي عموماً، وليس فقط في حملتهم الانتخابية التي عاد فيها شعار «الإسلام هو الحل» بعد أن اختفى أو على الأقل نحي جانبا في نشاطاتهم خلال الشهور الأخيرة. وبالرغم من أن بعض أحزاب المعارضة الرئيسة قبلت هذه الصيغة، فاقم موقف جماعة «الإخوان» أزمة الثقة المفقودة أو المحدودة. لم تكن الأحزاب المأزومة حتى النخاع في وضع يمكنها من إعلان فشل جهود التحالف، أي إضافة إخفاق جديد إلى سجل لا يتحمل المزيد. ولذلك فضلت أن تهرب إلى الأمام. وهكذا حاولت هذه الأحزاب أن تغطي أزماتها من خلال تحالف مع «الإخوان» يقويها انتخابياً. ولما فشلت في ذلك، لم يعد لديها سبيل لتغطية هذه الأزمات إلا الدخان الكثيف الذي أطلقته وأطلقت عليه اسم «الجبهة الوطنية للتغيير السياسي والدستوري». لكن، المأزق الذي وضع فيه «الإخوان» هذه الأحزاب لا يقارن بالخسارة التي قد يتكبدونها من جراء رفضهم التحالف الانتخابي. فقد خسروا فرصة كانت سانحة لاكتساب ثقة أحزاب وقوى المعارضة. وهذه خسارة قد لا يعوضها قرارهم التنسيق مع أشخاص ينتمون إلى معظم الأحزاب. ولكنهم اعتمدوا موقف الشخص تجاههم وعلاقته معهم معيارا للتنسيق معه، وليس انتماؤه الحزبي أو السياسي. وهذا أسلوب يصلح لانتخابات نقابية راكموا خبرات كبيرة فيها، أكثر مما يلائم انتخابات برلمانية. فبالرغم من أن «الإخوان» في مصر يشاركون في هذه الانتخابات بشكل منظم ومنتظم منذ عام 1984، فهم لم يكتسبوا بعد خبرة كافية. لا يزال الميل إلى الكسب التكتيكي أو الفوز السريع غالبا لديهم على النحو الذي ظهر، أيضا، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حين أرادوا استثمار تسابق نصف المرشحين في هذه الانتخابات عليهم سعيا إلى دعمهم. فقد اعتمدوا تكتيك الغموض التصويتي عبر إعلان قيادتهم عدم تأييد مرشح بعينه، الأمر الذي أبقى المزاد بين هؤلاء المرشحين مفتوحا حتى يوم الانتخاب. غير أن هذا المكسب التكتيكي لم يخل من خسارة لأنه أضعف ثقة بعض الأحزاب والجماعات السياسية في إمكان بناء علاقة مستقيمة مع «الإخوان». وجاء خيارهم في الانتخابات البرلمانية ليزيد فجوة عدم الثقة التي تضعهم في معضلة قد لا يدركون صعوبتها إلا متأخرين. ----------------------------------------------------------------------------- الحياة