المشهد في العراق وفي أفغانستان، يحدثنا عن الحلم الأمريكي، عن حلم الإمبراطورية الأمريكية التي تقود العالم. وذلك المشهد، هو نتاج المغامرات الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية، والتي تحاول فيها السيطرة على قلب العالم، حتى تستطيع فرض نفوذها على العالم. والحلم الأمريكي له العديد من الصياغات، فهناك الخطاب الموجه للإعلام، وهو يدور حول إقامة الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية،ومواجهة الدكتاتورية وأسلحة الدمار الشامل، حتى تنعم شعوب المنطقة بالحرية والديمقراطية والسلام. وأحيانا نتساءل عن سبب هذا الخطاب الخادع، ونظن كثيرا أنه خطاب موجه لشعوب المنطقة حتى يخدعها ويجعلها تتعاون مع المخططات الأمريكية. ولكن وقائع الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، والتصرفات التي تقوم بها قوات الاحتلال، لا تترك لنا أي مساحة لنتصور أن الإدارة الأمريكية تحاول خداعنا، فهي تتصرف كعدو الغاشم، وكل سلوكها كراهية للمنطقة وشعوبها. ويبدو أن الخطاب الخادع، والذي يدور حول تحرير المنطقة ونشر الديمقراطية، هو للاستهلاك المحلي أساسا، فهو موجه للرأي العام الغربي، ليبرر مغامرات الإدارة الأمريكية، ويكسب حلمها الإمبراطوري مسحة خيرية، وكأن الغازي الأمريكي ينشر السلام في بلادنا. والرأي العام الأمريكي أو الغربي عامة، يصدق ما يقال له، وأحيانا يتشكك فيه قليلا، ولكنه سرعان ما يعود لقناعته بالصورة التي سوقت له. وخلف هذا الخطاب الذي يتكلم عن نشر الديمقراطية والحرية، نجد الحقيقة من المغامرة الأمريكية في المنطقة، وتلك الحقيقة ببساطة هي استعمار المنطقة، ولكن بشكل جديد من الاستعمار. فالإدارة الأمريكية تحاول الهيمنة على العالم، تحت دعوى أنها الأحق بقيادة العالم، ولهذا تحاول فرض هيمنتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على المنطقة. والاستعمار الأمريكي الجديد لا يقوم على الاستعمار العسكري فقط، بل يستخدم الأداة العسكرية لكسر مقاومة الدول التي لا تتبع السياسة الأمريكية. ويحاول الهيمنة على بقية الدول من خلال سياسة العصا والجزرة. والهدف النهائي لذلك هو إنشاء دول تابعة، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وأيضا على المستوى الثقافي والحضاري. وهذا هو الاستعمار الجديد، أنه بحق استعمار حضاري شامل، يحاول تشكيل كل دول العالم على النمط والنموذج الأمريكي، ليس في الشكل بل في الجوهر. وتلك قضية مهمة في الواقع، لأن الهدف ليس فقط التبعية السياسية لأمريكا، بل تحقيق التبعية الكاملة للنموذج الغربي. ومن خلال تلك التبعية، تصبح الولاياتالمتحدة هي قائدة العالم، والذي يسمونه العالم الحر. وغزو العراق وأفغانستان، يهدف في الواقع لتطبيق الرؤية الأمريكية من خلال استخدام القوة المسلحة، حتى تكون العراق وأفغانستان، النموذجين المثاليين الذين يتم إعادة إنتاجهما في دول أخرى. فالمطلوب ليس فقط احتلال العراق أو أفغانستان، بل المطلوب تشكيل دولة فيهما، تمثل النموذج الذي تريده الولاياتالمتحدةالأمريكية، من باقي الدول العربية والإسلامية. والدولة المطلوب تشكيلها، يجب أن تكون ديمقراطية، وتابعة للسياسة الأمريكية في الوقت نفسه، ويجب أن تعبر عن نظام حر، وتكون خياراته مع المصلحة الأمريكية في المنطقة. وتلك في الواقع أهم مشكلات المشروع الأمريكي، لأنه يحاول زرع حكومات تابعة، ونظام غربي تابع، ولكن من خلال ممارسة ديمقراطية، وكأنه يريد أن يختار الشعب بحرية كاملة، الخيار الأمريكي. وهذا الموقف يعبر عن سذاجة النظرة الأمريكية، وتصورها أنها بالفعل تستطيع السيطرة على العقل العربي أو المسلم. ومن هنا يظهر مأزق المشروع الأمريكي، لأنه لا يستطيع تحقيق الهدف الذي يعمل من أجله، والواقع في العراق وأفغانستان، يأتي بنتائج غير متوقعة، وليست في صالح المشروع الأمريكي. ففي العراق مثلا، تظهر القوى الإسلامية بوصفها القوى ذات الثقل الشعبي الواسع، والقادرة على تحريك الجماهير. ويضطر الاحتلال الأمريكي للتعامل مع هذه القوى، لأنها فاعلة في الواقع العراقي. ولكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، بل يجد الاحتلال الأمريكي نفسه في واقع معقد ومتشابك، من تكوينات طائفية، ذات علاقات تاريخية معقدة بينها وبين بعض. وفي أفغانستان أيضا، ورغم تضاؤل المقاومة في البداية، إلا أن مقاومة الاحتلال تظهر وتتسارع درجتها، ويجد الاحتلال نفسه أمام بلد بلا دولة يحكمه في الواقع أمراء الحرب. وتتفكك الأرض، وتتعدد الجهات المسيطرة على الأرض، ولا يجد الاحتلال مكانا يقيم فيه دولته إلا بضع أمتار في العاصمة. ويتكرر المشهد في العراق، حيث نجد المليشيا تسيطر أكثر من الدولة، ونجد نفوذ الدولة لا يتعدى جزء من العاصمة، ونفوذ الطوائف يتوسع على حساب الدولة. هنا ينكسر الحلم الأمريكي ولا يعد قادرا على تأسيس دول تابعة تحمي مصالح الولاياتالمتحدة. ويكتشف الاحتلال الأمريكي أن الفوضى التي أحدثها في العراق وأفغانستان، ليست فوضى خلاقة، بل هي صراع دامي يحطم كل شيء. بالتأكيد سوف يدفع العراق وأفغانستان ثمنا باهظا من تاريخهما، ولكن التصور الأمريكي أيضا، أصبح بعيد المنال، وربما مستحيلا. لقد تحولت الفوضى إلى مستنقع، وقع فيه الاحتلال الأمريكي، ولا يستطيع الخروج منه. وهذا المستنقع سوف يؤدي إلى حالة حرب، جزء منها حرب أهلية، وجزء منها حرب ضد الاحتلال الأمريكي. وهي في النهاية فوضى شاملة، لا تحقق الحلم الأمريكي، ولا تحمي المصالح الأمريكية، ولا تؤمن صادرات النفط، ولا تعد نموذجا للدول الأخرى، حتى يفرض عليها. ونعتقد أن الإدارة الأمريكية ستزيد من حالة الفوضى، حتى لا تخرج مهزومة، ولكنها ستجد حلمها يغرق في الفوضى. [email protected]