باختيار أكراد إقليم كردستان العراق الانفصال عن الدولة العراقية الموحدة يكون جزءً آخر من العالم العربي قد تم استلاله، بعد انفصال دولة جنوب السودان عن السودان الموحد. وهكذا تنتقل دول العالم العربي من مرحلة التقسيم إلى تقسيم المقسم، كان تقسيم سايكس بيكو هو التقسيم الأكبر في مرحلة النصف الأول من القرن العشرين، ثم تأتي مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين لتستحكم نظرية تمزيق المركز أو القلب وشدّ الأطراف، فيتم تفجير دول المركز أو القلب بالعمل على إشغالها بأزمات لا تنتهي وحروب وصراعات حدودية لا تتوقف، ويتم شدّ الأطراف عبر سلسلة من التحالفات الاستراتيجية مع الدول الثلاث الكبرى حول دول العالم العربي وهي: أثيوبيا وإيران وتركيا (قبل مرحلة وصول أوردغان أو حزبه). لقد ترك الاحتلال الغربي هذه البقعة من العالم بعد أن اطمأن إلى إغراقها في سلسلة من المشاكل والأزمات سواء الداخلية أو على الحدود لا يمكن أن تنهض منها أبدا، ومن يراجع التجربة الماليزية على المستوى الاقتصادي أو إن شئنا الدقة على مستوى النمط الحضاري عندما يقول مهاتير محمد: أدركنا لو أننا اتبعنا وصفة صندوق النقد الدولي لغرقت البلد، وهو المصير الذي يتحقق في كل دولة تلتزم بوصفة الصندوق. وقس هذا التصور على مستوى الوجود الأساسي للدول، فدول الاحتلال قبل أن تترك الأرض سملتها لنخب ولائها الكامل للدولة المحتلة السابقة سواء على مستوى أنماط الحياة أو على مستوى الاختيارات السياسية والاقتصادية. ولا زالت تلك الدول التي نالت استقلالها أسميا تعاني من تلك النخب التي تحافظ على الميراث الحضاري والفكري للمستعمر أو المحتل وتمكن دفة القيادة لجيل أكثر تبعية وتماهيا مع هذا النمط الاحتلالي واختياراته الحضارية. باختيار أكراد العراق خيار الانفصال يكون العالم العربي على أعتاب مرحلة جديدة ينتقل فيها من واقع الانقسام الفعلي إلى شرعنته عبر آلية الاستفتاء أو الاتفاقيات الدولية أو الدول العظمى التي سمحت وأعطت الضوء الأخضر لتكريس واقع الانقسام وإضفاء مزيد من الشرعية عليه. وهذه المرحلة بالغة السوء تعيش دول المركز أو القلب أشد أزماتها الوجودية، ففي مصر تعيش الدولة موتا سريرا غير مسبوق، وتستمد أسباب بقائها من خارج حدودها، وتعيش ليبيا واقعا انقساميا مدعوما من نفس الكتلة التي تمد مصر بأسباب البقاء، واختار الثوار التوانسة الخروج من سباق التحرر الكامل بالتسليم الداخلي للطرف المنهزم في الانتخابات لعلاقة التبعية المشهودة بنفس الطرف الذي يمد مصر بأسباب البقاء، وقرر المغرب الانحناء للعاصفة وهو نمط من الإدارة الملكية التي لا تتصادم مع تيار الحرية لكن يورطه في العمل الإداري اليومي في مشكلات الناس الحياتية فلا يقدر على حلها ولا يقدر على الانسحاب، مع التسليم بحق العرش ابتداء في إدارة السياسة الخارجية والدفاع والتوجه الاستراتيجية للدولة. هذا عن منطقة المركز أو الأطراف وامتدادها الغربي حتى الأطلسي ، وفي المشرق العربي مشكلات مشابهة مع بعض الاختلاف . العالم العربي على اعتاب مرحلة جديدة تتسم بالتشظي والاحتكاك المباشر مع مثيرات الصراع ما بين أزمات اقتصادية طاحنة أو أزمات حدودية لن تبقي ولن تذر عالما عربيا موحدا ولو على سبيل الشعار. العالم العربي على أعتاب اختبار وجودي ينتقل فيه من مرحلة التقسيم إلى مرحلة التشظي، وفيه تتخلخل البنية النفسية للفرد العربي فلا يعود يشعر بانتمائه لكيان إقليمي متمايز ولو على مستوى الهوية الثقافية أو الوعاء الفكري الواحد. وكما لم يكن انفصال الأكراد هو الانفصال الأول فلن يكون هو الانفصال الأخير فلا زالت كيانات أخرى دون الدولة العربية الموحدة تطمح إلى تكرار التجربة وستشجعها بيئة دولية مواتية ولو بالسكوت أو بمنحها الضوء الأخضر في البداية ثم الدعم في النهاية، هكذا هي قوانين العلاقات بين الدول. انفرط عقد العالم العربي، وعمل في جسده سكين التقسيم، لكن ليس لجرح بميت إلام.