حالة من الغضب بدرجات متفاوتة صدرت أمس عن رموز في جماعة الإخوان المسلمين بعد الضجيج الكبير الذي تسببت فيه مباراة النادي الأهلي مع نادي الترجي التونسي في بطولة أفريقيا لكرة القدم ، وكذلك الاحتفالات الصاخبة بالفوز بعد انتهاء المباراة سواء في الشوارع أو في صفحات التواصل الاجتماعي أو المقاهي أو أي مكان واقعي أو افتراضي ، موجة فرح عارمة شملت الجميع ، خاصة وأن النادي الأهلي هو صاحب الشعبية الأولى في البلاد ، والبعض يقدر مشجعيه بالخمسين مليون مصري ، المشكلة التي ضايقت الإخوان أمس أن الحدث جاء متوافقا مع وفاة الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للجماعة يرحمه الله في ظروف إنسانية مؤسفة فرضت الحزن على الجماعة وأبنائها ، كما أشاعت موجة ضيق وغضب بين قطاعات واسعة من السياسيين لأنه لم يكن هناك أي مبرر إنساني أو أخلاقي أو سياسي يبرر استمرار حبسه وهو شيخ طاعن في السن على أبواب التسعين ويعاني من أمراض عضال تهدده بالموت المحقق ، فجاءت مباراة الأهلي أمس لكي تطغى إعلاميا وشعبيا على الحدث ، وتشيع في النهاية جوا من البهجة والسعادة في عموم البلاد . غضب الإخوان وضيقهم مما حدث ربما يضع أيدينا على خطأ "سياسي" كبير وقديم للإسلاميين بشكل عام ، وليس الإخوان وحدهم ، وهو التقوقع شعوريا ووطنيا داخل رؤى خاصة ضيقة ومصالح تنظيمية ضيقة وما يتصل بها من مشاعر أو رموز ، متصورين أن الشعب كله يعيش نفس الهموم والمشاعر والرؤى والتقديرات ويقدر نفس الرموز ، وهذا ما يجعلهم يخسرون الكثير من المعارك السياسية بسهولة ، لسوء تقدير الواقع وتجاهل هموم الناس الواسعة واحتياجاتهم الفطرية في الفرح والحزن والبهجة ، وهذا ما يجعلهم أحيانا يعيشون في غيبوبة حقيقية عن الواقع ، وأذكر أن الجماعة الإسلامية في مصر ظلت سنوات طويلة تناشد الشعب التضامن مع محنة الدكتور عمر عبد الرحمن رحمه الله ، رمز الجماعة الديني الذي كان مسجونا في الولاياتالمتحدة ، ووصلني عشرات البيانات على مدار سنوات تبدأ بخطاب : "يا شعب مصر إن الشيخ عمر عبد الرحمن يعاني كذا وكذا ..." رغم أنك لو قابلت مائة شخص في أي شارع في مصر وسألتهم عن الشيخ عمر عبد الرحمن فلن تجد بينهم سوى شخص واحد فقط ربما سمع عنه ، وغالبا لن تجد هذا الشخص ، ولكنها "العزلة السياسية" عن الواقع وسوء تقدير جوهر السياسة بمفهومها الحديث ، أن تتصل بمصالح الناس ومشكلاتهم وهمومهم اليومية وحتى مصادر حزنهم أو سعادتهم ، هم وليس أنت ، ولذلك تجد في بعض الديمقراطيات العريقة يلجأ المرشح إلى نجوم سينما أو نجوم في كرة القدم ليقفوا بجواره في الصورة أو الخطبة ، إدراكا منه لمعنى رمزيتهم عند ملايين المواطنين وتأثيرهم الضمني في الاختيار . مشكلة الإسلاميين أنهم يريدون ممارسة السياسة بعقلية التنظيم وليس برؤية الحزب السياسي ، بفكر الجماعة وليس بوعي الحراك الوطني الواسع ، بمشاعر تستبطن الوعي "الطائفي" المنغلق على مصالح ومشاعر أبناء طائفته تنظيمه وليس بفكر خلاق ينفتح على المجتمع كل المجتمع بجميع مكوناته ، الأزمة مع الأسف تتصل بمفهوم الدور السياسي وأولوياته ، من الجماعة إلى الوطن إلى الأمة . والحقيقة أن أزمة الإسلاميين هنا يتحمل مسئوليتها بالمقام الأول النخبة الفكرية التي نشطت طوال القرن الماضي ، وقدمت إسهامات فكرية عديدة في مختلف المجالات ، إلا في مجال تجديد الفكر السياسي الإسلامي ، وطرح رؤى جديدة قادرة على استيعاب الخبرة الإنسانية الجديدة في مجال السياسة والحكم ، والمختلفة كليا عن خبرة التاريخ القديم ، لقد توقف إبداع العقل السياسي الإسلامي تقريبا عند القرن الخامس الهجري وما قدمه إمام الحرمين الجويني في كتابه "غياث الأمم" ، وهو الذي طرح تصور خلو الزمان من إمام ، وكانت فكرة جديدة تماما على الوعي الإسلامي . أغلب الاضطرابات السياسية والتنظيمية التي أضرت بالتيار الإسلامي وأحزابه وتنظيماته طوال القرن الأخير كانت متصلة بغياب تلك الرؤية السياسية التجديدية ، وتسببت في كوارث سياسية متوالية عند الإخوان في أكثر من بلد ، وكوارث دموية عند تنظيمات أخرى عنيفة مثل داعش التي تصور مؤسسوها أن إنقاذ الأمة في استنبات منظومة الخلافة القديمة متجاهلين وجود واقع إنساني ومحلي وإقليمي ودولي جديد تجاوز الصيغة السياسية القديمة تماما وفرض قطيعة واقعية بديهية معها ، وأصبح يحتاج إلى عقل سياسي ناضج يبدع صيغة سياسية جديدة تستلهم جوهر أساس الدولة في سيرة النبي الكريم ، لتصلها مع الخبرات الإنسانية الجديدة ، اجتماعيا وتنظيميا وتقنيا ، لإنهاء هذا الصدام الحضاري المتكرر وغير الضروري بين الإسلام والدولة الحديثة . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1