احتفظ التاريخ للراحل الملك حسين عاهل الأردن بقيمة التسامح، وعقلية السياسي، ورمزية الحاكم كوالد لكل شعبه، مؤيد ومعارض، بواقعة عابرة لكنها تخّلدت في الذاكرة الإنسانية عندما عفا عن المعارض الشرس نقيب المهندسين الأسبق ليث شبيلات، وذهب للسجن، وأخذه بسيارته إلى بيته، وقال قولة عظيمة الدلالة: " من أجل أم ليث"، وكان شبيلات قد انتقد الملك نفسه. لن تسير الحياة إذا سعى كل طرف فيها للقضاء على الطرف الآخر بضربة قاضية، الحياة نفسها لا تقوم على النهايات الحاسمة، استمرارية الحياة تعني استمرارية البقاء، والخاسر في معارك الحياة لا ينمحي من الوجود، يضعف لكنه لا يموت، الهنود الحمر في أمريكا تعرضوا لمجازر إبادة شاملة من جانب العنصري الأبيض الذي جاء ليستوطن الأرض الجديدة، وأرادها بلا سكان أصلاء حتى لو كانوا هامشيين، ومع ذلك بقيت منهم سلالات لاتزال تعيش لليوم، وتشكل قبائل، وتفتخر بماضيها وجذورها وعاداتها وتقاليدها، وتحافظ على فولكلورها في الملابس والاحتفالات، وسط بهرجة الحداثة الأمريكية، وهكذا في كل بقعة على وجه الأرض عاش فيها بشر ستجد أثرا لهم إنسانا ومادة وتاريخا. مالم نكن متسامحين فإننا سنتقاتل بلا توقف، ودماؤنا ستملأ بحور الأرض، ولن يعيش شخص واحد هانئا آمنا، التسامح هو التراحم والعفو والغفران والصفح الجميل، " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، كأن القرآن لم ينزل علينا، أو كأننا نقرأه لمجرد القراءة، وليس للفهم والتدبر والتعقل والالتزام بقيمه الإلهية العظيمة. دولة القانون نفسها، ورغم صرامتها، إلا أنها لا تخلو من التسامح ومن الرحمة والرأفة، بماذا يُسمى قانون العفو الذي يُمنح للحكام؟، إنه جانب الرحمة الذي من خلاله يمكن تقدير ظروف وأوضاع وآلام المحكومين مهما كانت جرائمهم، وهذا العفو لا تخلو منه قوانين أي دولة في العالم ديمقراطية أو استبدادية. السلطة الديمقراطية لا يقلق منها شعبها، لأنها لا تستطيع التعسف بحقهم، فهناك مؤسسات تمارس الرقابة عليها، وتقوم بالمحاسبة لها، هناك تدافع للسلطات، وهو أمر يكاد يكون شبيها بتدافع الامبراطوريات والدول والأمم، وفيه مصلحة للبشرية، والمشكلة في السلطة غير الديمقراطية التي تطوع كل المؤسسات لصالحها، وقد تضعها في يديها، فلا رقيب عليها ولا حسيب لها أمام تعسفها. ماذا يعني أن يموت محمد مهدي عاكف في السجن؟، ومعروف أنه كان مصابا بمرض عضال، وأن أجله يقترب، وحتى لو كان يتلقى علاجا في مستشفى فهو سجين على سرير أبيض؟. ماذا كانت ستخسر السلطة لو كانت استخدمت حق الإفراج الصحي عنه لترعاه أسرته في أيامه الأخيرة، وينتقل إلى الرفيق الأعلى وهو في بيته، ما هو الخطأ في ذلك؟، وكما قلنا فليس من طبيعة الحياة البشرية والتاريخ شطب الخصم بالكامل من الوجود، فلا نصر ساحق يلغي وجود الطرف الآخر في أي معركة، هذا لم يحدث منذ بدأت البشرية، وستظل هكذا حتى نهايتها. شاهدت صورا ل عاكف خلال محاكمته في أيامه الأخيرة، وهو محاط بعدد من قوات الشرطة، وأتصور لو صُوب عليه هواء مروحة فإنه كان سيسقط أرضا، وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيبا، وكل ذلك كان أدعى ألا يبقى في السجن، وكذلك كل من يواجه ظروفا صحية وشيخوخة قاسية، ومن يعانون أمراضا مزمنة خطيرة تجعل ما بقي لهم من أيام في الدنيا أقل مما مضى. قوة السلطة وهيبتها في تسامحها، الرحمة هي القوة، دولة القانون تأخذ حقوقها، ومحاكماتها تستمر، لكن قيم التسامح والعفو يجب أن تظل حاضرة لمن يعيشون أوضاعا إنسانية قاهرة. السلطة في أي مكان عندما تتعامل مع مواطنين كأنهم ملك يمينها فإنها تخسر حتى لو كانت تخوض مواجهات شرسة مع خصم يمتلك الكثير من العناد المدمر، ويواصل غض البصر عن الواقعية والظرفية المحلية والخارجية غير المواتية له. لو عكسنا الوضع وكانت السلطة أفرجت عنه، ومعه الحالات المماثلة له من مختلف التيارات، لكانت كسبت كثيرا لدى خصومها، ومن رفاقها الذين خرجوا من عباءتها. إذا كانت الحسابات الأمنية تتخوف من أن يمارس المفرج عنهم نشاطا تحريضا، أو مقلقا من أي نوع، فمعروف أنهم سيكونون تحت الرقابة ليلا ونهارا، سواء باتصالات هاتفية، أو لقاءات مباشرة، وبالتالي يمكن التدخل السريع، ومنع أي خطر قادم. لماذا تمتلئ السجون بكل هذه الألوف؟، ماذا تفعل بهم السلطة؟، دعونا مرارا لتبييض السجون وتفريغها، فذلك سيكون له مردود إيجابي كبير لصالحها، ويحسن صورتها الخارجية، ويزيل ملاحظات على ملف حقوق الإنسان المؤرق، كما ينعكس على الداخل ليشيع حالة من الأمل والتفاؤل. السجن ليس علاجا، خصوصا مع أصحاب الحبس الاحتياطي، والأحكام الصغيرة، والقضايا غير المؤثرة، أو التي تتعلق بأمن الدولة، والجرائم الخطيرة، انخراطهم في المجتمع والحياة العامة هو العلاج. لست أدافع عمن يهدد الدولة ومؤسساتها، ولا يروع الناس، ولا يحرض على العنف أو يمارسه في قضايا مكتملة الأركان بعيدة عن أي غرض، القضاء المستقل العادل يقوم هنا بدوره على أكمل وجه. هولندا تبيع السجون لأنها بلا نزلاء، والمتبقي من سجونها تؤجره لدول مجاورة لتضع مساجينها فيها، بفضل العدالة الشاملة التي وصلت بالجريمة لأقل مستوى. العدالة الشاملة هي العاصم والحامي للمجتمع من الجريمة، والعدالة في جانبها السياسي لا تنشئ صراعات على السلطة، وتجعل الحاكم آمنا مطمئنا، لا يخشى من ظله. فلتعد مصر متحابة، بلا كراهيات، أو أحقاد، أو أزمات، أو صراعات. أعيدوا فضيلة التسامح. حفظ الله مصر، وشعبها، ومؤسساتها. [email protected]