(1) لا يخلو عصر ولا مصر من بنائين يشيدون مظاهر العمران، فالبناؤون كُثُر، ولكن لا يجود الزمان دومًا بالبنائين العظام، فمصر بلد الأهرامات بها أكثر من مائة هرم، لكن خمسًا أو ستًا منها فقط دخلت ذاكرة التاريخ، لأن من قام عليها بناؤون عظام، وفي مصر آلاف المساجد، لكن القليل منها يضاهي مسجد السلطان حسن الذي لا يكاد يذكر في التاريخ إلا بمسجده، وفي مصر عشرات القلاع والمنشآت الحربية التاريخية، لكن لا تبقى في الذاكرة منها إلا قلعة صلاح الدين في القاهرة وقلعة قايتباي في الإسكندرية، لأنهم من البنائين العظام، فكانت أعمالهم تكتب آثارهم.
(2) بالأمس رحل عن عالمنا إلى دار الخلد أحد هؤلاء البنائين العظام، الذين تركوا بصماتهم التي غيرت وجه مصر بالعمران وكذلك ألهمت قريحتها بالأفكار، لقد بدأ يشيد أهراماته ويترك علاماته مبكرًا وهو في سن الأربعين، كان ذلك في أعقاب النكسة، وكان قبلها بعام قد أصبح أصغر رئيس للمؤسسة العامة للطرق والكباري، ووقع عليه عبئ إعادة تأهيل المطارات التي تلقت الضربة الإسرائيلية في يونيو 1967، لتعود بنفس الكفاءة خلال أسابيع، والعمل المتواصل على ذلك تحت نار القصف ونار الحر، وبعد النجاح في التحدي الأول جاء التحدي الثاني وهو حائط الصواريخ، الذي تطلب إنشاء شبكة من الطرق بين تلك المواقع الجديدة لإيصال المعدات إليها، وإمدادها بالمؤن، وتسهيل الإنتقال منها وإليها، ثم كان التحدي الثالث، وهو إقامة ساتر ترابي على الضفة الغربية من القناة يزيد إرتفاعه عن الساتر الترابي الإسرائيلي الشهير على الضفة الأخرى، بحيث أصبحت الضفة الشرقية تحت نظر القوات المصرية، وفي الوقت ذاته زود بمرابض للدبابات وتجهيزات لا تجعل منه حائلًا دون العبور عندما تأتي لحظته، وقد كان، وهكذا شيد هذا البنَّاء الكبير – بواسطة شركات الطرق والإنشاء التابعة للمؤسسة التي يرأسها - أهراماته الثلاثة التي كانت من العوامل الأساسية التي مهدت الطريق لنصر أكتوبر العظيم.
(3) ولم يكن هذا الفارس قبلها بعيدًا عن الحياة العسكرية ولا عن سيناء التي مهد الطريق لها فيمن مهدوا، فبعد تخرجه من كلية الهندسة جامعة القاهرة عام 1949 إلتحق في العام التالي بالقوات المسلحة كضابط مهندس في سلاح المهندسين، وظل فيه لست سنوات قبل أن يعود للحياة المدنية مسلحًا بما أكتسبه خلالها من صفات وخبرات، حيث خدم معظم تلك السنوات في سيناء تحديدًا، يمهد الطرق وينشؤها بين ممراتها الوعرة، خاصة الطرق المؤدية إلى ممر متلا، في ظروف صعبة وإمكانيات محدودة، وهكذا كانت معاركه ومنجزاته الإنشائية تدور حول سيناء، سعيًا فيها أو سعيًا لإستردادها، كما كانت العسكرية هي مجاله الأول، بشكل مباشر كضابط مهندس، أو بشكل شبه مباشر كرئيس مؤسسة تقوم على مشروعات المجهود الحربي.
(4) وبعد الإنتصار وإعادة التعمير تدرج لفترات قصيرة في المناصب، محافظًا لبني سويف، ثم إلى المنوفية، وفي كل منهما ترك بصمات على قصر المدة، ورغم أنه ظل محافظًا للمنوفية لعام واحد فقط إلا أن كثيرين من أهالي المنوفية مازالوا يذكرون فترته التي أنار فيها الطرق بين القرى، حيث بدأ هذا في عهده.
(5) ثم يدخل إلى الوزراة في وزارة مصطفى خليل عام 1978، وفي عام 1980 يتولى وزارات النقل والمواصلات والنقل البحري، وهنا بدأت الطفرة الإنشائية التي ميزت عهد الرئيس مبارك حتى سمي عهده (عهد الكباري) في إشارة من المواطنين لتحسن قطاع الطرق والكباري ومشاريعه مقارنة بقصور الأداء في قطاعات خدمية أخرى، حيث أنشئت أكبر عدد من الكباري تربط ضفتي النيل، ومنها كباري (بنها) و(دسوق) و(المنصورة) و(شربين) و(ميت غمر) و(فارسكور)، و(بني سويف) و(المنيا) و(أسيوط) و(الأقصر)، كما بدأ في عهده كوبري (أسوان) وهو أول كوبري معلق على النيل، وكوبري (سوهاج)، وبدأ في عهده كوبري (السلام) وهو الكوبري المعلق فوق قناة السويس، وإنجاز مماثل تم في قطاع الطرق التي زادت من 16 ألف كم إلى 44 ألف كم حين انتهى من عمله الوزاري، وشملت ازدواجات الطرق الرئيسية مثل القاهرة-الإسكندرية، والقاهرة-السويس، والمحلة-دمياط، وإنجاز ثالث في السكك الحديدية التي تضاعفت قدراتها ثلاثة أضعاف، وتم ازدواج خط القاهرةأسوان وهو الأمر المنتظر منذ ايام الإنجليز !، كما عادت السكك الحديدية إلى بورسعيد وإلى سيناء، وإنجاز مماثل في مرفق الإتصالات الذي إعيد بناءه وزادت الخطوط من 540 الف خط ضمن منظومة متهالكة إلى أكثر من سبعة ملايين خط، وأنتهت في عهده قوائم الإنتظار التي كانت تصل في بعض السنترالات إلى عشرين عامًا.
(6) ولم تكن تلك الإنجازات مجرد دأب عمل ممزوج بمهارة وخبرة، بل كان بعضها لا يأتي إلا بخوض معارك حقيقية تحتاج لفارس مثلما تحتاج لبنَّاء، كان بعضها يمثل تحديات هائلة فنية ومادية، وفكرية أيضًا، ومن ذلك أنه عقب عودة العلاقات بين مصر والأردن عام 1985 تقرر إنشاء ميناء للربط مع ميناء العقبة وتحقيق الربط البحري بين مصر والأردن، ولإسباب قدرتها القيادة السياسية وقتها تقرر أن يتم تنفيذ هذا الميناء بكافة مرافقه في أربعة اشهر فقط !!، وكان ذلك يمثل تحديًا هندسيًا ولوجستيًا شبه مستحيل، وفاز الفارس بمعركته، وتم الإفتتاح في الموعد المقرر في حضور الرئيس مبارك والملك حسين والسلطان قابوس، وكانت إشادة الملك والسلطان – الذي سمي الميناء بإسمه- عظيمة، غير أن أعظم إنجازات الرجل - وأطول وأهول معاركه كذلك - هي المرتبطة بمشروعه الذي غير وجه القاهرة تمامًا، وهنا يكمن الفارق بين (البنًاء) و(البنَّاء العظيم)، فالأخير يتبنى إلهامًا وينقل تفكيره إلى خارج الصندوق ويخوض المعارك حين يؤثر الآخرين السلامة.
(7) لقد غير هذا الفارس وجه القاهرة للأبد، والقاهرة قاهرة، تقهر من يحاول التغيير فيها، فكثيرون حاولوا وقليلون منهم جدًا فازوا برهاناتهم، لذلك لا تحتفظ ذاكرة القاهرة إلا بقليل من الأسماء، بعضهم ترك بصماته على أجزاء محددة منها فقط، مثل الخديو إسماعيل في وسط القاهرة التي أعاد تخطيطها على النمط الفرنسي، والبارون إمبان الذي فعل الشيئ نفسه في مصر الجديدة، وعبد اللطيف البغدادي الذي أنشأ كورنيش النيل، أمثلة قليلة هي التي أجبرت القاهرة على أن تحتفظ بها في ذاكرتها التي أسقطت الكثيرين ممن عملوا لها، لكن هذا الفارس تبنى مشروعًا لإنقاذ القاهرة التي كانت تختنق من الزحام في اوائل الثمانينات، مشروع مترو الأنفاق، الذي واجه سيلًا من التشكيك، بعضه من داخل مجلس الوزراء ذاته، بالبعض لم يدرك أهمية المشروع في سحب الزحام من سطح الأرض إلى باطنها وتخفيف العبئ على الطرق المكتظة وتوفير الملايين من ساعات العمل وإنقاذ القاهرة من جزء لا يستهان به من العادم والتلوث، فبعضهم ظنه مشروع رفاهية وقال (إن القبيحة تتجمل)، وبعضهم أكد على إستحالة تنفيذه لعدم وجود لوحات تفصيلية للبنية الأسياسية وشبكاتها أسفل القاهرة، وبعضهم أثار الذعر فيما يتعلق بالمباني التي تقع عند مسار المترو والخشية من انهيارها، وبعضهم تحدث عن اختناق القاهرة خلال سنوات تنفيذ المشروع، وبعضهم تحدث عن الكساد التجاري في تلك المناطق، لكن هذا الفارس خاض معركته مع كل تلك المستويات، ونجح في النهاية – متسلحًا بالعلم والرؤية والتخطيط والدراسات الفنية والإجتماعية المتكاملة لأكبر بيوت الخبرة العالمية – في إقناع القيادة السياسية بالمشروع، وتذليل العقبات الفنية في البداية، ثم النفسية التي بدأت في التداعي واحدًا بعد الآخر مع تقدم العمل بنجاح، حتى تم الخط الأول، ثم الخط الثاني، وتغير وجه القاهرةالمدينة بالكثير لتلك المعارك التي خاضها هذا الفارس من أجلها، ولعلها ترد له الهدية يومًا بأن تهديه محطة يطلق عليها أسمه في المشروع الذي سهر السنوات – لا أقول الليالي – من أجله.
(8) ولأن البنائين العظام لا يجدون وقتًا لغير البناء كان هذا البنَّاء العظيم منصرفًا عن المعارك الصغيرة، وعن أجواء الدسائس والمكائد، ومترفعًا عن الرد عليها، ومنصرفًا كذلك عن معظم حظوظ النفس من الترفيه والترويح عنها، كانت حياته إنكاسًا لمفهوم البناء في المجال الإجتماعي والأسري، فكان وقته مقسمًا بين العمل، وبين حياته الأسرية داخل البيت، وبين ممارسة التريض للحفاظ على لياقته البدنية والزهنية، وكان مثالًا للقوي الأمين، مهيبًا نزيهًا، عفيف اليد مثلما هو عفيف اللسان، وقد غادر الدنيا وهو يعيش في نفس البيت الذي كان يعيش فيه من أوائل الستينات.
(9) ما كان للفارس أن يترجل دون معركة أخيرة، خاضها ببسالة وعزة كالمعتاد، روح مقاتل تمتطي جسدًا طالما أركضته وسابقت به الزمن في معاركها من أجل البناء والتنمية، وها هي – ذات الروح الباسلة – تمتطي ذات الجواد وتحارب به معركتها الأخيرة، لكن الجواد الذي طالما إنصاع لها وأفنى نفسه في معاركها عبر عشرات السنوات كان قد شاخ، وقدم آخر ما عنده، وبعد معركة أخيرة استمرت أكثر من شهر ترجل الفارس الكبير، ورحل البنَّاء العظيم....رحم الله المهندس سليمان متولي وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن مصر خير الجزاء.