تنمية شاملة بعد عقود من الإهمال| مشروعات زراعية وصناعية وبنى تحتية فى كل شبر من أرض الفيروز    تحرير سيناء.. «قصة كفاح نحو البناء والتنمية» ندوة بمجمع إعلام قنا    سيناء من التحرير للتعمير    البورصة المصرية.. أسعار الأسهم الأكثر ارتفاعًا وانخفاضًا اليوم الأربعاء 24-4-2024    بتخفيضات 30%.. الكاتدرائية المرقسية تستضيف مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا»    عاجل.. تنبيه مهم من البنوك لملايين العملاء بشأن الخدمات المصرفية    وزير الاتصالات: مصر تطرح رؤيتها المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في المحافل الدولية    «شهادات الموت والرعب والأمل».. أهل غزة يصفون 200 يوم من الحرب | خاص    جمعة فى مؤتمر رابطة العالم الإسلامى بالرياض: نرفض أى محاولة لتهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته    السيسى يحذر من أى عمليات عسكرية فى رفح الفلسطينية    سفير الصين: العلاقات مع مصر في أفضل حالاتها.. وتجمعنا طموحات مشتركة    تعرف علي عدد الأندية المصرية الموقوف قيدها حاليًا بفرمان من «فيفا».. مستند    تشكيل البنك الأهلى لمواجهة بيراميدز    رياضة الوادى الجديد تختتم فعاليات الحوار المجتمعي «دوي» وإعلان المبادرات الفائزة ببرنامج نتشارك    تريزيجيه ينافس مبابي ووالكر في قائمة مميزة حول العالم    بالصور| السيطرة على حريق اندلع داخل مصنع للمسبوكات بالوراق    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم الناقد العراقي مهدي عباس    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    عناوين مكاتب تطعيمات الحج والعمرة بمحافظة كفر الشيخ ومواعيد العمل    عاجل من الصحة بشأن منع هذه الفئات من الخروج في الموجة الحارة (فيديو)    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    رغم توافر السيولة الدولارية.. لماذا يرفض التجار استلام بضائعهم من الموانئ؟| تفاصيل    قريبا.. مباريات الدوري الإسباني ستقام في أمريكا    زيادة وتيرة حرب أسعار السيارات الكهربائية في الصين    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    حجز قضية مصرع شاب على يد 6 أشخاص في المنصورة للنطق بالحكم (فيديو)    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    طلاب كولومبيا: لن ندخل في مفاوضات مع إدارة الجامعة    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    الصحفيين والمهن التمثيلية تعقدان اجتماعا مشتركا لوضع ضوابط تغطية جنازات الفنانين    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    عزف على أوتار الفقد    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هل هناك أذكار وأدعية تقال في الحر الشديد؟.. رد واضح من الإفتاء    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    إجازة شم النسيم 2024.. موعدها وعدد أيامها بعد قرار مجلس الوزراء بترحيل الإجازات    رئيس جامعة جنوب الوادي يكرم الوفود المشاركة بالملتقى الفني 21 لشباب الجامعات    محافظ المنيا: تقديم كافة الدعم للأشقاء الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي لحين تماثلهم للشفاء    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    حزب الحركة الوطنية يناقش خطة عمل المرحلة المقبلة والاستعداد لانتخابات المحليات    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    روسيا تبحث إنشاء موانئ في مصر والجزائر ودول إفريقية أخرى    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    وكالة الفضاء المأهول الصينية تحدد يوم غد موعدا لاطلاق سفينة الفضاء المأهولة شنتشو-18    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل بشأن المقابر الجماعية في غزة    عمرو الحلواني: مانويل جوزيه أكثر مدرب مؤثر في حياتي    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مِصر الثورة فى خطاب قناة "العربية".. حتى نعرف أكثر
نشر في المصريون يوم 30 - 05 - 2012

تعاملت قناة "العربية" مع ثورات الربيع العربى بتوجُّس ونفور، بدءاً بتونس مروراً بمصر واليمن وليبيا، وانتهاءً بسوريا، وكان هذا الموقف ناجماً عما يمكن أن تثمره هذه الثورات من ميلاد ديمقراطيات تعبر عن إرادة الشعوب وقد تتناقض مع المصالح الأمريكية فى المنطقة، اتسم التناول الإخبارى للقناة بالانحياز إلى الدكتاتوريات أو التوازُن المصطنع، ما أوقع هذا التناول فى كثير من التخبط وفقدان البوصلة، وعلى الرغم من أن الأدلة على هذا الخط كثيرة جداً فى تناول جميع الثورات العربية، إلا أننى سأقتصر هنا على الثورة المصرية وعلى ثمرتها، "الانتخابات الرئاسية".
ثورة 25 يناير
عندما تفجَّرت ثورة 25 من يناير 2011، أحجمت "العربية" عن وصْفها بالثورة، كحالها مع جميع الثورات العربية، وحتى يوم الأحد الذى تلا الثورة (30 فبراير) استمرت تصف الثوار بالمحتجين، وحاولت القناة طوال الوقت "تلميع" مبارك، وتخفيف اللوم عنه، والحديث عن "إصلاحات" ينوى القيام بها، أو قام بها وتؤتى أُكُلها، ومن العناوين التى ظهرت على شاشة القناة: "مبارك يكلف الحكومة بتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مبارك يأمر بإزالة الأضرار والخسائر التى تعرضت لها المرافق، هيئة السلع التموينية: السلع الأولية فى مصر وضعها آمن". وهى عناوين تحمل دلالات سلبية، وتشى بأن الثورة "تخريبية"، ومضرة بالاقتصاد وحياة الناس، كما تشى بأن هناك مَن يقوم بإصلاح الضرر وهو مبارك.
فى 29 يناير اعتدى بلطجية على المُتحف المصرى وأتلفوا بعض محتوياته، فيما يبدو أنها محاولة لتشويه الثورة، والتقط التلفزيون المصرى الحدث؛ ليطالب بالحفاظ على مصر وحماية مكتسباتها وآثارها، ومضى التلفزيون المصرى فى الحكاية المفبركة؛ ليبث مقطعاً تقبض فيه قوات الأمن على "المخربين"، وبالطبع ظهروا جميعاً ملتحين، وبثياب أو "دشداشات"، ولم يكن مستغرباً أن يبث تليفزيون مبارك كل هذا الهُراء، ولكن المستغرب أن تتجاهل قناة العربية احتجاجات الثورة، وتحصر تناولها الشأن المصرى فى حادثة الاعتداء على المتحف، متباكية على "الآثار" النفيسة التى لا تقدَّر بثمن، والتى أتلفها المخربون!، ثم تنقل العربية - ويا لَلْدهشة - بثاً مباشراً مشتركاً مع التلفزيون "المباركى"، يُظهر صُور الملتحين وهم فى السجن، وضحكت كثيراً وأنا أشاهد "المخربين" الذين بدوا نظيفى الهيئة و"مرتَّبين"، هذا التناول يعرفه دارسو الدِّعاية بأنه نموذج ل "خلط الأوراق" أو "التلاعب بالأوراق" ((card stacking، تنتقى خلاله الوسيلة الإخبارية أو الميديا وجهاً واحداً للقصة، وتُغفِل أوجهاً أخرى (للتعرف أكثر على هذه القصة وتداعياتها فى الصحافة السعودية تحديداً، انظر مقالى فى صحيفة "المصريون": "البلطجية فى الصحافة السعودية: فص ملح وداب" على هذا الرابط:http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=49759).
فى 31 يناير، أى بعد الثورة بأيام، قدرت العربية عدد المتظاهرين فى التحرير ب 10 آلاف، بينما قالت الجزيرة وغيرها إنهم 150 ألفاً، وتقليل الرقم تكتيك دِعائى آخر، يهدف إلى النيل من شعبية الثورة واتساعها.
فى يوم الخميس الذى تلا الثورة نشرت العربية على صدر شاشتها هذا العنوان: "مؤيدون ومعارضون يتوافدون على ميدان التحرير"، وهو عنوان "مؤطَّر" ((framed يختزل الثورة فى صراع بين مؤيدين ومعارضين، ويفرغ الهبَّة الشعبية من مضمونها.
فى يوم الأحد 6 فبراير أشارت القناة على صدر شاشتها إلى أن مئات المتظاهرين يخرجون فى الإسكندرية، بينما كان العُنوان على صدر الجزيرة: ربع مليون متظاهر فى الإسكندرية. فى اليوم نفسه نشرت العربية هذا العنوان: "عودة مظاهر الحياة الطبيعية فى القاهرة باستثناء ميدان التحرير". هنا تستخدم القناة ما يُعرف فى تحليل الخطاب بالتعريض أو التلميح (insinuation)، فليس ثمة ثورة، إنما هم "شوية عيال" مجتمعون فى ميدان فى مدينة.
فى اليوم نفسه، التقت العربية بإبراهيم كامل، عضو الحزب الوطنى البائد، الذى أبلغ مذيعة القناة أن أغلبية الشعب تؤيد مبارك، وأن الشباب فى التحرير لا يمثلون هذه الأغلبية، وأن الشعب ليس كله موجوداً فى الميدان، ولم تنبس المذيعة ببنت شَفة، انتقاء الضيوف، فى كثير من الأحيان، يصب فيما يُسمى "الدعاية الاستشهادية" (testimonial) التى تقوم على توظيف نص أو تصريح لخبير ما من أجل دعم أيديولوجية الوسيلة.
فى يوم الأحد أيضاً سأل المذيع طالب كنعان مراسل القناة محمود عبد الكريم: ألم تعد الحياة إلى طبيعتها فى الإسكندرية؟، فأجاب المراسل: بلى.. إلى حد كبير. كنعان: أليس هذا دليلاً على أن وعود الرئيس بالإصلاح قد أسهمت فى عودة الحياة إلى طبيعتها وتطمين الناس؟، المراسل: صحيح..وقد تحدثت إلى كثير من المتظاهرين، وأخبرونى أنهم مرتاحون ومطمئنون إلى الوعود!، لكنهم مصرُّون على التظاهر؛ لكى يضمنوا حقوقهم.
فى يوم الاثنين 7 فبراير، قالت معلقة العربية إن الحياة تعود إلى طبيعتها فى القاهرة، مضيفة: دَعْ مَن يتظاهر يتظاهر، ودع الباقين يعيشون فى سلام (يا سلام!..تلميح آخر). ويظهر على الشاشة مواطن مصرى يقول: البنوك فتحت.. هنعمل أزمة ليه؟!، ويقول آخر: دول خونة.. عايزين يعملوا مصر زى لبنان والعراق. وتختم المعلقة بالقول: يبدو أن الأمور تجرى كالمعتاد، خصوصاً أن هؤلاء يشعرون أن النظام قدَّم تنازُلات بما يكفى.
وعندما تسرَّبت أنباء عن تعيين محمود وجدى وزيراً للداخلية خلفاً لحبيب العادلى حاولت العربية استغلال ذلك لتشكيل انطباع بأن الأمور تنفرج، مستضيفة محمد على إبراهيم رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، الذى قال للقناة: محمود وجدى يمكن أن يلم المجرمين الذين فروا إذا أصبح وزيراً للداخلية، والمصريون لا يريدون إسقاط النظام، بل استعادة الأمن والأمان، ومخزون القمح يكفى المصريين إلى يوليو، كما استضافت القناة صحافياً اسمه "نبيل شرف الدين" أسبغ المديح على الوزير الجديد قائلاً: وجدى رجل محترف وغير مسيَّس وطاهر اليد (مَن هم "المجرمون" الذين فروا من السجون؟، فى إحدى نشراتها تحدثت العربية عن فرار معتقلين من حركة حماس وصوَّرت ذلك بوصفه خطراً).
فى غُرَّة فبراير عادت الشرطة إلى الشوارع بعد اختفائها، وحرصت العربية على تقديم الحدث بوصْفه تمهيداً لعودة الأمور إلى طبيعتها، أظهر تقرير للقناة من القاهرة ترحيب الناس بالشرطة، وعلق مراسلها بالقول: منذ غياب الشرطة انتشر السلب، بينما قال مواطن التقت به القناة: "البلد لازم يكون لها كبير..والكبير هى الشرطة".
فى مساء ذلك اليوم استخدمت العربية شعار: مصر التغيير، بينما كان شعار قناة الجزيرة: الشعب يريد. وفى يوم الخميس التالى استضافت القناة فناناً اسمه مصطفى كامل ليقول الكلمة السحرية: "مبارك بطل". وفى اليوم نفسه قبض المعتصمون فى مَيدان التحرير على ما وصفته القناة ب "عناصر أمنية"، وصوَّروا بِطاقاتهم الرسمية، وتوسل أحد هؤلاء "العناصر" إلى المتظاهرين ألا يسلموه للجيش بحسب رواية مراسل القناة مازن عباد الذى أكد أنه اطَّلع على الأمر بنفسه. لكن المذيع يسأله: هؤلاء مؤيدون لمبارك؟!. فيرد المراسل: هم تابعون لوزارة الداخلية.. فيصر المذيع أنهم مؤيدون لمبارك.. فيقول المراسل: أنا رأيت بنفسى هوياتهم الأمنية. انتهى المشهد هنا، ولم أَرَ مازن بعد ذلك على شاشة القناة. عندما اقتحم البلطجية ميدان التحرير وعاثوا فساداً فيه، اختارت العربية مصطلح "مؤيدو مبارك" فى مقابل "معارضو مبارك"، وأغفلت الحديث عن البلطجية (تأطير للمشهد بوصفه صراعاً أهلياً، لا ثورة تنتظم السواد الأعظم من الشعب)، كانت القناة تحاول تخفيف الضغط على مبارك الذى يترنح وتفشل كل محاولات إنعاشه، وجاء يوم الرحيل، أو جمعة الرحيل (4 فبراير) وكتبت العربية على شاشتها هذا الخبر: رئيس الوزراء "أحمد شفيق" للعربية: "بقاء مبارك رئيساً لمِصر مصدر أمان"، وتحدثت القناة عن امتلاء ميدان التحرير بمحتجّين "فيما وصفوه بيوم الرحيل"، والتعبير للقناة. والتقت ريما مكتبى بضيف (اختارته بالطبع ليقول ما تريد أو ما تريد القناة)، فقال: يجب أن يترك هؤلاء الميدان. فتسأله ريما: إنهم شباب عاطفى، كيف نقنعهم؟، فيقول الضيف: لا بد أن يذهب إليهم علماء؛ ليقنعوهم، ويتحدث مراسل العربية فى ميدان التحرير عن قضية هامشية جداً، ولكنها تعنى الكثير لقناة العربية. يقول: الإخوان رفضوا الائتمام بالإمام فى ميدان التحرير، وأصروا على الصلاة خلف إمام منهم.. فتسأله المذيعة اللبنانية نجوى قاسم: شُو يعنى؟، انقسم المصلين هيك!، لا أدرى ما هى أبعاد هذه القصة الغريبة؟، وهل حدثت بالفعل، أم أنها (وهو الأرجح) من بنات "شياطين" العربية.
فى اليوم نفسه، يلتقى مذيع القناة سابقاً حافظ الميرازى بصحافية فاسدة من أعمدة الدعاية المباركية هى "صفاء حجازى"، التى قالت: الشباب يتحملون مسؤولية تلويث الثورة التى تم اختطافها، وتضيف حجازى: يجب أن تتوقف حرية التعبير إذا اصطدمت بالأمن القومى، ويجب ألا نرضخ للضغوط الأميركية التى تطالب بتغيير الرئيس، كما يستضيف الميرازى منى مكرم عبيد التى صوَّرت الثورة خطراً داهماً، فقالت: المطلوب من الشباب هو التهدئة؛ لأن البلد فى خطر..من أجل مصر ارجعوا إلى بيوتكم. ويعلق الميرازى قائلاً: "الآلاف يهتفون لبقاء مبارك إلى الأبد، لكن مبارك لا يريد كل ذلك، هو فقط يريد إكمال الأمانة..هل يمكن أن يشتبك الطرفان؟!".
فى جمعة الزحف (11 فبراير) التقت العربية بالداعية معز مسعود، من مؤسسة "أهل البيت للفكر الإسلامى"؛ لتسأله عن خطاب مبارك الأخير الذى فوَّض فيه صلاحياته لنائبه عمر سليمان، فأجاب الضيف بطريقة مستفزة: هذا فتح.. ويجب على الشعب السكينة والحكمة، سأله المذيع: هل تحث الناس على العودة إلى بيوتهم؟، رد معز بحماس: نعم..أنا مبسوط جداً جداً...لا أدرى هل كان مبسوطاً أم كان "متولياً" يوم الزحف؟.
فى 13 فبراير انتصرت الثورة، لكن العربية ظلت تربطها بالفوضى، فظهر على شاشتها عنوان يقول: الجيش يحذر مثيرى الفوضى، طبعاً من دون وضع كلمة "الفوضى" بين مزدوجين. وقالت مراسلة العربية رندا أبو العزم فى اليوم نفسه إن "الجيش سيُصدر بياناً شديد اللهجة ضد المحتجين؛ فالاقتصاد المصرى لم يتحمل مزيداً من الخسائر". هكذا، حتى بعد تنحى مبارك، ظلت الثورة المصرية فى خطاب قناة العربية مجرد تظاهرات شغب وتخريب للمؤسسات ونزيف اقتصادى، لا حديث عن معانى الحرية والكرامة التى انتفض المصريون لأجلها.
الانتخابات الرئاسية:
تناوُل العربية للانتخابات البرلمانية والرئاسية هو امتداد لتخبُّطها فى تناول الثورة. لكن يمكن أن نأخذ الرئاسية أُنموذجاً. فقد حرصت القناة على البحث عن الانقسامات فى الصف الإسلامى، وتشويه صورة الإسلاميين بوصفهم غير صالحين لقيادة دولة مدنية، وملتزمة بالاتفاقات الدولية (والمقصود تحديداً كامب ديفيد). مثلاً فى 12 من مايو 2012 قالت القناة إن الإخوان شنوا هجوماً ضارياً على السلفيين لتأييدهم المرشح المستقل أبو الفتوح، وإن السلفيين وصفوا هجوم الإخوان بالهمجى. هكذا يبدو المشهد: جيشان يهم أحدهما بالتهام الآخر. بالطبع قد يكون أصل القصة صحيحاً، لكن "التلوين" والتشويه يكونان عادة فى الصياغة، بحيث تنتقى الوسيلة الإعلامية مصطلحات مؤدلجة أو مشحونة بالعواطف، من أجل تقديم انطباع ما، أو رسم هالة ما. تعبير "ضارياً" يسمى فى تحليل الخطاب "الإبراز" (foregrounding)، ويعنى استخدام "كلمات مفتاحية" من أجل "الإبراز النصّى"، كما يحمل أيضاً دلالة لفظية (connotation)، تتضمن استعارة أو كناية تهدف إلى تشكيل صورة ما.
فى اليوم نفسه، قالت ريما صالحة، وهى مذيعة الموت فى قناة العربية (برنامج صناعة الموت) إن محمد مرسى أعلن عزمه تطبيق شرع الله، قد يبدو التعبير عادياً ومقبولاً، ولكن، مرة أخرى، من منظور تحليل الخطاب، هناك نوع من التعريض أو التلميح (insinuation)، حيث يتلفظ منتج الخطاب بعبارات تبدو عادية، ويستطيع إنكار دوافع سيئة لها، كان بإمكان القناة، لو كانت متوازنة وغير مؤدلجة، أن تقول: "أعلن مرسى عزمه على تطبيق الشريعة الإسلامية"، بدلاً من "شرع الله"، العبارة التى تحمل فى إيقاعها إيحاءً بخطاب دينى تقليدى (مصطلح "شرع الله" يردده علماء الدين عادة لا السياسيون أو المرشحون الانتخابيون). وبالرجوع إلى نص خطاب مرسي، بحسب ما نشرته رويترز، فإننا نجد مرسى قال التالى: "نحن قادرون على تطبيق الشريعة الآن، وإننا لن نرضى بديلاً عن الشريعة الإسلامية". وهو ما توقعته قبل أن أبحث عنه فى رويترز (ريما صالحة لديها مشكلة فى اللغة أيضاً، فهى لم تنطق عبارة "شرع الله" بطريقة صحيحة؛ إذ نطقت لفظ الجلالة (الله) مفخماً، مع أن الحرف الذى قبله كان مكسوراً، وكان يجب ترقيق اللفظ).
فى 12 من مايو أيضاً، كتبت العربية على صدر شاشتها هذا العنوان المفخخ: "الانتخابات تشق صفوف السلفيين فى مصر". ونتعرف على الإجابة فى ثنايا النشرة، حيث يقول المذيع إن الرمز السلفى محمد عبد المقصود أيد مرشح الإخوان مرسى، كيف يكون هذا التأييد "شقاً" فى الصفوف؟!، كان يمكن للقناة أن تنأى بنفسها عن "التفكير الأمنياتى"، وتقول مثلاً: الداعية السلفى محمد عبد المقصود يؤيد مرسى..من غير انشقاق ولا شقاق.. و"يا دار ما دخَلك شر". لكن القناة المؤدلجة حتى الأسنان تصر مرة أخرى على هذا التلوين الدلالى (connotation)، مستخدمة استعارة أو مجازاً يحمل معنى ثقافياً ذا مغزى لدى الجمهور- ممارسة غير مهنية، لكنها قد تقلب العقل غير الناقد رأساً على عقب.
فى 22 من مايو وصفت العربية أحمد شفيق بالمرشح "المستقل"، بينما وصفت أبو الفتوح بالمرشح الإسلامى. هذا تصنيف وصفى وليس أيديولوجياً؛ لأن شفيق ليس مستقلاً، بل هو البندقية التى استأجرها مبارك فى آخر عهده ليجهض الثورة، بينما يصدق وصف "المستقل" على أبو الفتوح الذى لا ينتمى إلى أى تيار بعد استقالته من جماعة الإخوان المسلمين (هذا التصنيف تأطيرى أيضاً (framed)، يستند فيه وصف قضية أو شخص أو شىء ما إلى الثقافة أو الرؤية الكونية لمنتج الخطاب).
وفى 22 من مايو أيضاً ناقشت منتهى الرمحى فى برنامجها "بانوراما" (اسم أجنبى فى قناة اسمها العربية)، الانتخابات المصرية، وظهر هذا العُنوان على الشاشة: "مخاوف من الانقسام فى المجتمع المصرى بسبب الانتخابات"، السبب؟، يقول بعض الضيوف: احتمال وصول إسلاميين يحتكرون الفضيلة والحقيقة وحدهم! يبدو الحديث عن الانقسام خبراً، ولكنه "افتراض مسبق" (presupposition)، كما يعلّمنا التحليل النقدى للخطاب، وكان بإمكان القناة طرح تصور مختلف يناقش مثلاً فرص توحيد الانتخابات للمجتمع المصرى بدل تقسيمه.
فى 23 من مايو استضافت القناة الكاتب المصرى سعد هجرس الذى زعم أن "الرشاوى جاءت بهذا البرلمان الذى يزيف إرادة الأمة، وسيتكرر الشىء نفسه فى الانتخابات الرئاسية"!، وفى اليوم نفسه، استعرضت العربية ما قالت إنها شكاوى المواطنين المصريين فى موقع تويتر، واختارت لنا منها شكوى أحدهم من فتوى لبعض أنصار أبو الفتوح تقول إن: "مَن لم يصوت لأبو الفتوح فهو آثم"، وشكوى أخرى يزعم صاحبها أن "الإخوان يشترون الصوت بمائتى جنيه وكيس رُز وزيت". هذا مثال آخر لتكتيك خلط الأوراق ((card stacking، الذى تنتقى خلاله الميديا أخباراً تمثل وجهاً واحداً للقصة، وتغفل أوجهاً أخرى.
فى 24 من مايو تعود القناة إلى دعاية الاستشهاد (testimonial)، فتلتقى بالمغنى هانى شاكر فى برنامج "صباح العربية"، وتسأله السؤال "الصحيح": هل أنت خائف من الإسلاميين على الفن؟، أجاب: نعم.. مش معقول أغنى أغنية ما تعجبهومش.. ثم يحبسونى!، سأله المذيع: هتعمل إيه؟ أجاب: أبطل غِناء.. ما عنديش استعداد أنحبس على آخر الزمن. وتلتقى مذيعة القناة رندا أبو العزم بالممثلة يسرا وتسألها: "أنت خايفة من تيار بعينه؟"، فتجيب: "أنا خايفة من الكلام اللى بيتقال..حرام التمثيل..حرية الإبداع..التماثيل مش عارفة إيه". وتسألها رندا: "قالوا: الفن النظيف والفن الهادف".. فتقول يسرا: "الفن فن.. أنت حرة فى خيالك..أتقبّله أو لا أتقبله.. أنا حرة..". وهكذا تدور قناة العربية على الفنانين لتسألهم عن "المصير الأسود" الذى ينتظرهم إذا ما وصل إسلاميون إلى الحكم بإرادة شعبية، لم تسأل القناة الناشطين والإسلاميين والحقوقيين عن مخاوفهم من وصول الفلول إلى الحكم، ولا غَرْوَ؛ فالعربية جزء من الماضى؛ من إرث مبارك، وهى تتجاهل، كالطغاة العرب تماماً، أن حركة التاريخ ماضية وستكنس الواقفين أمامها، بمَن فيهم أبواق الدعاية.
وإمعاناً فى هذا التهويش الدعائى، تلتقى القناة فى 24 من مايو بناخبة تقول: "أنا عايزة رئيس كويس، مش مهم مسيحى والا مسلم". ويقول ناخب آخر: "أنا ما صوّتتش للرموز الدينية؛ لأن الدين ما فيهوش سياسة". طبعاً، العينة بينة، ليس على الناخبين، بل على العاطفة الجياشة لدى قناة العربية، والتى تشبه الهوس، لم تشاهد العربية 70٪ من الشعب المصرى صوتوا للإسلاميين فى الانتخابات البرلمانية، كلهم يرى السياسة جزءاً من الدين. ذهبت "تنقب" على هواها..وأضلها هواها. وفى اليوم نفسه تخرج العربية بخبر يشبه الوقيعة أو الدسيسة، فزعمت المذيعة سهير القيسى أن "مناصرين للمرشح الإخوانى مرسى "اعتدوا" على أنصار صباحى بالضرب". هكذا اعتدوا، وأوردت الخبر من دون ذِكر مصدره، وهو ماهر تِلِّيمَة من حملة صباحى فى لجنة الفرسان، بحسب ما نشرته صحيفة "اليوم السابع". والمضحك أن العربية بعد تقديم الخبر بصورة درامية التقت بمندوب من حملة مرسى وسألته عن "الاعتداء" بوصفه حقيقة مسلَّمة، فأنكر المندوب الحدث "جملة وتفصيلاً". لكن الخبر حقق مراده، أما "الترقيع" فى آخر الخبر، فكان مجرد تظاهُر بالتوازن، ومحاولة تجميلية مكشوفة. نصَّبت القناة نفسها حكماً وقررت أن هناك معتدياً ومعتدًى عليه، فى مشهد لم تحضره. ربما حدث اعتداء متبادل، وربما اختلط الحابل بالنابل، لكن القناة تسف إسفافاً؛ لأن إناءها ينضح بما فيه، ولأن التحامل أعيا مَن يداويه.
فى 24 من مايو أيضاً، أوردت سهير القيسى خبراً مشابهاً يذكِّرنى بأفلام عادل إمام عن "الإرهاب"، أو بعض الأفلام الأمريكية التى تُقولِب العرب والمسلمين فى صور نمطية تهدف فقط إلى السخرية، تقول المذيعة: "امرأة منتقبة اعتدت على امرأة أخرى بالضرب واتهمتها بالكفر والإلحاد؛ لأنها رفضت التصويت لمرسى". طبعاً، لا يمكن تصور مشهد كهذا فى مصر ولا فى أى مكان فى العالم، فلا إكراه فى الانتخاب، فضلاً عن التكفير بسبب الامتناع عن التصويت، ولم أجد حاجة لاستقصاء الخبر؛ لأنى أعرف خيال "العربية".. وأعرف "بنات" الهوى من أفكارها.
فى 25 من مايو، استخدمت العربية هذا العنوان على صدر شاشتها: "الإخوان يستبقون النتائج ويعلنون تقدُّمهم"، والعبارة تعريض آخر (insinuation)، وهى رأى أكثر منها خبراً. "يعلنون تقدمهم" خبر، و"يستبقون النتائج" رأى، أو تلوين.. لكننا نعذر العربية المصابة بالذعر والألم. وفى اليوم نفسه، استضافت منتهى الرمحى فى "بانوراما" سامح سيف اليزل (ضابط سابق فى المخابرات المباركية) الذى قال لمنتهى: كثير من المصريين يرفضون تولى الإسلاميين كل مقاليد الحكم فى مصر (يقصد البرلمان والرئاسة معاً)، وأعادت القناة نشر هذه العبارة على شاشتها مرات عدة، والتقت القناة فى مساء يوم 25 من مايو مع يُمْن الحماقى، رئيس قسم الاقتصاد بكلية التجارة بجامعة عين شمس، التى قالت إن كثيراً من المصريين يميلون إلى شفيق؛ لأن انتخابه سيقود إلى "الاستقرار".
وفى مساء 29 من مايو (بعد ظهور نتائج الانتخابات) استضافت العربية فى "بانوراما" محمد نور فرحات، أستاذ القانون بجامعة الزقازيق، ناقلة عنه قوله إن الإخوان "وعدوا بعدم تقديم مرشح للرئاسة، لكنهم أخلفوا وعدَهم" - مقتطف من حديث الضيف ظهر مرات على صدر الشاشة... هل كانت العربية تلطم؟!
وعلى الرغم من أن القناة تحاول أحياناً أن تظهر بمظهر التوازن، فتستضيف ممثلين للتيار الإسلامى، أو تستخدم عبارات موحية بأنها لا تنحاز إلى طرف بعينه، لكنها تخفق كثيراً، وتعود مرة أخرى إلى الغرق فى التحامل، لا تستطيع العربية إلا أن تكون وفية لأجندتها المتصهيِنة، الساعية أبداً إلى تشويه المتدينين، وإظهارهم دائماً بمظهر الخطر المنذر بتدمير الحضارة والسلام والديمقراطية!
الحقيقة أن قناة العربية تتخبط، فلا هى أفلحت فى تقديم صحافة مهنية متسقة مع نفسها، ومتناغمة مع قواعد الصحافة وأخلاقياتها، ولا هى أفلحت فى تشويه صورة الإسلامى وتنفير الناخبين منه فى عصر الربيع العربى.
لكن يبدو أن الربيع العربى أصاب القناة فى مقتل، فكشف عَوَارها، وتركها على قارعة الطريق، تمضغ خطابات باهتة مكررة، لم تعد تقنِع أحداً، وفى رأيى أن العربية غير قابلة للإصلاح أو التأهيل، تماماً كنظام بشار الأسد الهمجى، لا سبيل لإصلاحه إلا باقتلاع النظام.
* أستاذ الإعلام السياسى بجامعة الملك سعود، صحافى، وكاتب
Twitter.com/LoveLiberty


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.