ما إن تكتب عن الحوينى حتى ينتشر مقالك وتنهال التعليقات والمشاركات. مظاهرة محبة فى اتجاه واحد.. ثناء ودعاء.. وإجماع على الرجل. هذا يكتب ذكرياته مع خطبة أو مقطع أو موعظة سمعها من الشيخ وكانت مفتاح قلبه، وهذا يحكى عن لقاء به غير حياته، وهذا يحكى عن سمته، وهذا عن كرمه. الحوينى حالة خاصة، شيخ توافقى بامتياز، ولا أعرف شيخاً فى مصر تربع على قلوب أغلب المصريين كذلك الرجل. السلفيون بكل مستوياتهم (إلا غلاة الجامية) والإخوان والشباب والعجائز، وما قابلت فى حياتى أحداً فلم يذكر الرجل إلا بخير، ولم أسال شاباً متديناً قط عن أحب شيخ إلى قلبه إلا وكانت الإجابة واحدة وباتفاق: "الحوينى". ومن الأعاجيب أن الكثيرين حين تسألهم كيف كانت بداية سلوك طريق التدين، فإذا بالإجابة غالباً محاضرة كذا للشيخ الحوينى، والأعجب أن أشهر محاضرة فى هذا الباب هى محاضرة: ليلة فى بيت النبى. نعم كان الحوينى فتحاً وبركة على هذه الأمة، واحترق شحمه ولحمه، خطبة خطبة، ودرساً درساً، ونجح فى أن يكون جسراً، وواسطة تاريخية بين القرون الفاضلة، وبين الجيل الجديد. نعم.. على الجسر الحوينى عبرت ألوف مؤلفة ولم يكن عبوراً والسلام، بل كان عبوراً مختلفاً، ومتميزاً، كانت محطات الوقود النفسية والإيمانية التى على الجسر الحوينى تقدم وقوداً من نوع خاص، لم تكن مجرد مواعظ، ولم تكن مجرد خطب حماسية تعطى للعابرين شحنات قصيرة المدى سرعان ما يزول أثرها، ويسقطون بعدها على قارعة الطريق.. لا وألف لا. على الجسر الحوينى.. تزود ألوف العابرين بوقود روحى ونفسى عجيب، وقود يلد العابرين من جديد ويبث فيهم روح القرون الأولى، ويبذر فيهم حراسة الحدود، وشرطة الموت، وينقل لهم خبرات مدرسة الحياة. كل من عبر إلى حقائق الدين من على الجسر الحوينى يعرف أنه مختلف عن الآخرين وأن الوقود الذى يقدم على هذا الجسر من نوع خاص. كانت كلمات الحوينى وأفكاره والأحاديث التى اختارها بعناية وقصد أن يرددها عمداً ويكررها ويشرحها، كانت مقصودة لإعادة بناء جيل التمكين. كان العابرون يصلون إلى الطرف الآخر محملين بطاقة جبارة تناسب العنوان الذى جعله الشيخ غلافاً لكل محاضراته فى السنوات الأخيرة: زمان المعارك الفاصلة. نعم، كان الشيخ يشعر باقتراب أيام المعارك الفاصلة ويسابق الساعات لتأهيل أكبر عدد ممكن من حراس الحدود وشرطة الموت وأجيال التمكين. كان مشغولاً ببث المعانى التى تهيئ الجندى لساحات الوغا، وبارقة السيوف، وأيام طويلة من الكر والفر والجوع والعطش. بذل الرجل حشاشة مهجته، وكان الكلام يخرج بقطع من شحم الرجل ولحمه، لذا كان من المفهوم والمتوقع أن يصيبه الإعياء، وأن يدب الوهن فى جسد الفارس، الذى بذله لربه ولدعوته. رأيته فى السنوات الأخيرة يقاوم لآخر قطرة قوة وعافية.. رأيته فى السنوات الأخيرة يقاوم مقاومة رهيبة، كان ما زال هناك فرصة لوقف حالة الانهيار الصحى، إذا لزم الراحة، وترجل من على جواده، وغادر ساحة المعركة ولو مؤقتاً. لكن الفارس فضل أن يناضل لآخر نفس، راغباً أن يسقط الآن فى أرض المعركة، رافضاً أن يحتفظ بما بقى من عافية فى غرفة دافئة أو مع عائلته وأبنائه. رأيته السنوات الأخيرة، كلما قطع منه جزء أخذ الراية بآخر، رافضاً أن تسقط راية عاش يقاتل تحتها ولأجلها ويجمع الناس عليها. واليوم يبكى ملايين العابرين مرض جسرهم العبقرى، ويشتاقون لليلة جديدة فى بيت النبى أو طرفة جديدة عن الأعمش وابن معين أو طلة جديدة من على منبره العالى، يعيد بث الثقة فيهم ويضىء لهم ليل الفتن المظلم ويربت على أكتافهم: أن لن تراعوا. وقد مر الشيخ فى مرضه الأخير بلحظات لا يعلم حرجها إلا الله، ولا أكاد أصدق إلى الآن أنه نجا. لكن يبدو أن له مع ربه خبيئة، أو أن دعاء ملايين العابرين قد رد قضاء الله. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: صنائع المعروف تقى مصارع السوءن وأنا أقسم برب الحوينى أن الحوينى فى هذا الباب أعجوبة من الأعاجيب. نجا الفتى الحوينى، ولعل ربه أبقاه ليخرج من هذه المحنة ويلعب دوراً جديداً يكون فيه كسفينة نوح. على شواطىء الحيرة التى تنهش الناس، يقف ملايين العالقين، ينتظرون سفينة تنقلهم إلى شواطىء الأمان والفرح، والمشكلة أن السفن كثيرة لكنها مريبة بين عجز الثقة وجلد الفاجر. السفن كثيرة لكن الخوف أن تستقل إحداها فيخطفك القراصنة أو قطاع الطرق أو من لا يحسن الإبحار ولا يعرف قوانين البحر. نجا الفتى الحوينى لحكمة لا يعلمها إلا ربه.. أما أنا فمحنتى خاصة.. فهذا الشيخ شيخى وأبى وأخى ودليلى فى الهجرة وعينى التى أرى بها.. أنا محنتى خاصة.. فلى معه ذكريات ومواقف لا تنسى وأيام من الفرح والهناء والأنس لا مثيل لها. أنا أيضاً أستحق الدعاء.. حين تدعون للفتى الذى نجا.