في ظل سيطرة الاستبداد على مقدرات الدولة المصرية، وسيادة المنطق الأمني على مفاصلها لا يمكن فهم الهجوم المنظم على شيخ الأزهر الذي يقوم به صحفيون أو إعلاميون "تجاوزا" محسوبون على مؤسسات القوة الصلبة والأجهزة الأمنية في الدولة إلا بأنه إشارة لاستهداف لشيخ الأزهر: شخصا ومنصبا، رغم ما يحمله هذا المنصب من جلال واحترام في العقل الجمعي المصري، وفي الوثائق التأسيسية كالدستور والقوانين المنظمة للشأن الديني. لم يكن إعلان هيئة كبار العلماء برئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لرفضها مقترح السيسي الخاص بتقييد الطلاق الشفهي وعدم الاعتراف به إلا القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة بين الرئاسة، وقمة مؤسسات الدولة الدينية الرسمية ممثلة في شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء (أعلى مرجعية دينية في الدولة). فقبل ذلك كان الخلاف الواضح بين رأس الدولة (أو سلطة الأمر الواقع، والقابض على زمام الأمور بفعل إمكانات القوة الصلبة) ورأس السلطة الدينية الذي يمسك بزمام أحد أهم أركان القوة الناعمة (المعنوية) في مصر وخارجها حول قضية تجديد الخطاب الديني، ثم جاءت أحداث تفجيرات الكنيستين في الإسكندرية وطنطا لتكشف عمق الهوة بين رأس السلطة المدنية (السياسية) ورأس السلطة الدينية بعد أن أطلقت الأولى أبواقها على الثانية تنتهج حرمتها ومكانتها بل ومرجعيتها باعتبارها صاحبة الاختصاص الديني في بيان الحكم الشرعي وتحقيق مناطاته على أرض الواقع وذلك بإصدار الفتاوى وما تعتقد أنه الحق. وتمثل هذا السعار الإعلامي على الأزهر وشيخه في تحميلهما مسؤولية الأحداث وهو إفك وبهتان عظيم: فلا الأزهر ولا شيخه الجليل هم من يقودون مؤسسات الدولة. ولا الأزهر ولا شيخه الجليل هم الذين يروجون لخاطب إعلامي استقطابي ينشر الكراهية ويحرض المصريين على بعض. ولا الأزهر ولا شيخه الجليل هم من جعلوا الدولة المصرية على شفا الإفلاس بسياسات اقتصادية تفتقر لأدنى درجات الرشد السياسي والاقتصادي. الدولة المصرية تعيش أزمة حقيقية، وليس من الحكمة لمن بيده مقاليد الأمر أو يظن أن بيده مقاليد الأمر توسيع جبهة العداء مع مرجعية دينية واجتماعية بحجم الأزهر الشريف، وليس من الحكمة أن تنقسم مؤسسات الدولة على نفسها أكثر مما هي منقسمة، فتبدو في صراعات داخلية على توجيه دفة الدولة المصرية. ليس من الحكمة أن يطرح رأس السلطة السياسية نفسه باعتباره يملك مفاتيح الحكمة، زمن الرجل الواحد انتهى، الدول الناجحة الآن تقودها مؤسسات على درجة عالية من التخصص، صحيح أننا نعيش مرحلة شبه الدولة لكن ليس من مصلحة الدولة الولوج في مستوى من الصراعات يهدد كيان الدولة المصرية، وهذا الكيان ليس بالضرورة أن يعبر عن رأس السلطة الذي هو أقرب لمدير مؤسسة قد يفشل في تحقيق أهدافها ويأتي غيره، والدولة خير أبقى ممن يديروها أيا كانت أشخصاهم، فما بالنا إذا انعدمت الرؤية السياسية وتلاشت الكفاءة وأصبحنا ننتقل من فشل إلى كارثة، ومن هوة إلى هاوية. ليس من مصلحة أحد توسيع شقة الصراع وتكثير الأعداء. الأزهر (وشيخه) هو منارة الإسلام، وهو يمثل الوسطية الإسلامية بأجلى صورها، والهجوم الأرعن عليه هو في أحد وجوهه هو هجوم على أهم مؤسسات الدولة المصرية، وأهم أركان القوة الناعمة (والمعنوية) فيها داخليا وخارجيا. فالأزهر الشريف هو شرف الدولة المصرية في أفريقيا وأسيا ومختلف دول العالم التي تدين لمصر بالفضل بفضل الأزهر الشريف وبفضل علماءه ودعاته وما يمثله من مرجعية دينية وما يمثله من ثقل في العالم الإسلامي. وقضية "تجديد الخطاب الديني" -التي يعتبرها البعض محور الخلاف بين الرئاسة وشيخ الأزهر- ليست هي القضية الحقيقية، فسلطة الدولة تريد أن يكون الأزهر ظهيرا فكريا وشرعيا لما تتخذه من قرارات ومواقف سياسية، والأزهر يرى أنه لا يمكن أن يكون مطية سياسية بهذا الشكل المبتذل، وفيما يتم الضغط على كل مؤسسات الدولة التي تبدي نوعا من الممانعة من السير في ركاب النظام (قضاة مجلس الدولة أو بعض أعضاء البرلمان) يتم الضغط على مؤسسة الأزهر: مؤسسة وشيخا، فمنهج التسيير واحد، والعقل الأمني الحاكم واحد. وحتى قضية "تجديد الخطاب الديني" فالدولة لا تريد أن تفهم أنها ليست قضية قرارات فوقية أو أوامر عليا، وإنما هي حركة اجتهاد شرعي وفكري تواكب متغيرات الواقع وتتحرى التوازن بين مقاصد الشريعة ونصوصها وبين مقتضيات الواقع المعقد، وليست مسألة إدارية كما يتصورها البعض تفرض بالضغط ولي الذراع، والاغتيال المعنوي وإطلاق أبواق إعلامية معروفة بقربها من مؤسسات القوة الصلبة والأجهزة الأمنية تنهش الأزهر: مؤسسة وشيخا. ملاحظة: وفقاً لقانون الأزهر الذي تم إقراره في يناير عام 2012، ونص على انتخاب شيخ الأزهر وانتهاء خدمته ببلوغه سن الثمانين، يكتسب شيخ الأزهر حصانة في منصبه تجعله غير قابل للعزل، إضافة إلى أن تقاعده لن يكون قبل 9 سنوات حين يبلغ 80 عاماً، هنا تأتي المشكلة لمن يتعجلون إدارة قضايا الدولة بالأمر المباشر.